ليست صناعة أميركية

لنقل إن الولايات المتحدة ارتكبت خطايا لا آخر لها في شرقنا الأوسط، بدعمها الأعمى للعصابة النازية في إسرائيل، وغزوها العراق، ورعاية أمراضه الطائفية والمذهبية، قبل حلّ جيشه، وزراعته بالفوضى والتشظي والاحتراب الأهلي.

لنقل إنها ساهمت كلياً أو جزئياً في أشكال مقيتة من الإرهاب، بل مارسته أيضاً، مثلما لم تتصرف في عهد رئيسين إلا بأكثر السياسات فصاماً وخديعة، تخلّت عن كل قيمة أخلاقية، وكذبت وراوغت، وسقط شعارها بقيادة العالم الحر سقوطاً مريعاً.

«الصناعة الأميركية تحتمل عيوباً من نوع فقدان السيطرة، غير أنها لا تنتج آلة لذبح مواطنيها من صحافيين وموظفين، وهي حين تريد خلق وحش على هيئة (داعش)، فأقلّه أن تحرص على أن يكون منقاداً لمشيئتها».

بمقدورنا أن نقول فيها أبعد من ذلك، ولكن عصابة «داعش»، التي نعرفها، لم تُصنَّع في مصانعها، على النحو الذي تؤكده ذهنية المؤامرة، وهي ليست أكثر من نتيجة، ضمن نتائج سيئة وكثيرة للكوارث الأميركية في المنطقة.

للصناعة الأميركية مزايا وخصائص لا تتوافر في «داعش»، لا على صعيد القول بتمزيق الجغرافيا المحيطة بإسرائيل، لضمان هيمنتها، ولا على صعيد إضعاف خريطة النفط وإشعالها بمزيد من الحرائق والدماء.

الولايات المتحدة أخفقت في الأسلوب والتنفيذ والتقدير منذ عام 2003، وواصلت عماءها حتى اندلع «الربيع العربي»، ففقدت حلفاء ومواقع استراتيجية، ولم تعرف كيف تتعاطى مع الثورة على الدكتاتورية، اكتفت بمراقبة المعركة الشرسة بين الاستبداد والتطرف، ولم تفعل شيئاً سوى تلويح باراك أوباما بخطوطه الحمر، ومن يأبه بعد ذلك للعجز تلو العجز!

لم تصنع «داعش» لتصبح دولة تترامى أطرافها على دولتين، وتحلم بما هو أبعد من الحدود التي أزالتها، وتعلن خلافة إسلامية، تتطلع إلى كيان ضخم يتمدد على تخوم إسرائيل، خبرة الماضي مع «القاعدة» لا تمنح واشنطن الجرأة للسماح لقوة راديكالية مهيأة لتفجير الأجساد في كل ولاية أميركية، وأينما كانت مصالحها، وليس فقط في طائرات مفخخة بالأجساد والانتقام، مثل «غزوة 11 سبتمبر»، فهنا عشرات الآلاف مثل محمد عطا، وقادتهم يَرَوْن «القاعدة» تنظيماً ضعيفاً، لم يعد مؤهلاً لكسر صلبان أميركا وأوروبا، وسبي نسائها وتركيعها بالجزية والرايات السود.

قد يصنع البنتاغون والـ«سي آي إيه» قوة مثل «داعش»، لاستئناف كربلاء إسلامية على امتداد رمال واسعة، لكن كل شك يصبح مشروعاً في غياب مصلحته عن قيام «دولة إسلامية» تبدأ غزواتها بإبادة كل ما يتحرك أمامها في الطريق إلى الهدف: سنّةً وشيعةً، عرباً وأكراداً، مسيحيين وإيزيديين.

الصناعة الأميركية تحتمل عيوباً من نوع فقدان السيطرة، غير أنها لا تنتج آلة لذبح مواطنيها من صحافيين وموظفين، وهي حين تريد خلق وحش على هيئة «داعش»، فأقلّه أن تحرص على أن يكون منقاداً لمشيئتها، وليس شاذاً حتى عن «القاعدة» وكل «القواعد» التي ترسمها في خرائط الأمم وغنائم التاريخ.

تعرف أميركا مخاطر اللعبة تماماً، تدرك أنها لا تستطيع اللعب والفوز بكفاءة، حينما ترعى أيديولوجيا دينية متطرفة: خطاباً وممارسةً وأهدافاً، فهي التي وفّرت كل مدخلات الإنتاج لصناعة «القاعدة» في أفغانستان، ثم أنفقت موازنة ضخمة لمحاربتها بعد عام 2001، وأصبحت عدوها الأول، الذي تسخر له كل الإمكانات حول العالم، حتى عندما تمدد التنظيم في العراق منذ عام 2004، بزعامة أبي مصعب الزرقاوي، لنتذكر أن الاستخبارات الأميركية، انهمكت سنوات في تعقبه وقتله في 2006، ثم قتلت ملهمه أسامة بن لادن في 2011.

لقد هيأت أميركا بإخفاقها في المنطقة كثيراً من الكوارث، وهي إن كانت تريد تقسيمها إلى كيانات صغيرة ودويلات هامشية، فلديها القدرة على إنجاز مهمتها بطرق أقصر، وأقل كلفة.

«داعش» صناعتنا، وجذورها شواهد في التاريخ والثقافة، والقول بأنها «صناعة أميركية بحتة أنتجتها مصانع البنتاغون» ليس أكثر من محاولة بائسة للبراءة من جريمة نتفرج على قبحها منذ قرون.

brafayh@ey.ae

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

الأكثر مشاركة