أبواب
قضايا صارخة
لست ممن يعتقدون أن المرء لن يكون أديباً ما لم يكن فقيراً.
هذا التنويه ضروري لتوضيح الفكرة التي نحن بصدد كتابتها ومناقشتها.
والفكرة بسيطة للغاية؛ فالمرء يكتب قصائد وقصصاً وروايات ومسرحيات، متناولاً قضايا إنسانية، والقضايا الإنسانية لا تختلف إلا قليلاً من مكان إلى آخر، فلندع القلق الوجودي جانباً، لأنه قلق نخبوي في المقام الرئيس، لكن هذا لا يعني أنه لا يطال الطبقات الفقيرة أو يمسها، ولا يعني أيضاً أن لا يكون باعثاً على الكتابة، وأن يشكل جوهرها في كثير من الكتابات. لكن قضايا العامة اليومية مختلفة تماماً، فالأغلبية من الناس تفكر في معيشتها ومفردات حياتها اليومية: لقمة الخبز وتعليم الأبناء وعلاجهم ومستقبلهم في مجتمعات حديثة.
ما معنى أن تفكر في الماورائيات، وتبحث في جوهر النشوء الإنساني وتحولاته، من دون أن تتحسس مشكلة الإنسان اليومية؟! على مَنْ يكتب أن يجد وسيلة تحافظ على انخراطه في الجماعة التي هو منها، لكي يعرف الأفكار والهواجس التي تلوب في رؤوس أفراد هذه الجماعة. |
وهنا سيكون عليّ أن أتساءل: ما معنى ديوان الشعر المعطر بالورد والمنقوع في ماء الزهر، طالما أن صاحبه لا يعرف غير ذلك؟ ما معنى أن تفكر في الماورائيات وتبحث في جوهر النشوء الإنساني وتحولاته، من دون أن تتحسس مشكلة الإنسان اليومية؟ اصطفافه في طابور طويل لساعتين انتظاراً لركوب الحافلة للحاق بالعمل والمنزل على حد سواء؛ شعوره وهو يحس بالقلق في كل لحظة على طفلته المصابة بالحمى، من دون قدرته على علاجها إلا بضمادات الماء البارد؛ تخوفه من أن يأتي صاحب المنزل المتواضع آخر الشهر، وهو لم يتمكن بعدُ من جمع أجرة المنزل؛ رعبه من أوامر صاحب المنزل في لحظة تدق رأسه على الدوام وفي كل آنٍ، وهو يطلب منه إخلاء المنزل!
أنا لا أقول إن الكتاب والأدباء ينبغي لهم جميعاً أن يكونوا كذلك، لكني أقول إن على من يكتب أن يجد وسيلة تحافظ على انخراطه في الجماعة التي هو منها، لكي يعرف الأفكار والهواجس التي تلوب في رؤوس أفراد هذه الجماعة.
أعترف أنني في العقدين الأخيرين، وبسبب نشوء شريحة من المثقفين والكتاب والأدباء، صار التواصل بيني وبين الجماعة التي أنتمي إليها أقل حضوراً، وأقل توهجاً، صحيح أنه لم ينقطع تماماً، وصحيح أكثر أن هنالك في داخل أبناء جيلنا ما يمكن تسميته «شيفرة» الجماعة التي نشأنا فيها وقاسمناها الخوف والقلق والترقب والحذر والضعف ذات يوم. وهذه «الشيفرة» ربما تعيننا في الكتابة إلى حد كبير. لكنّ جيلاً جديداً من الكتاب والأدباء والشعراء، أخذ يتشكل بعيداً عن حاضنته الأساسية، إلى الحد الذي يمكن القول إنه جيل العزلة.
هذا الجيل بدأ حياته الأدبية منخرطاً تماماً في الشرائح الثقافية النخبوية؛ الشرائح التي تكون الكتابة محور صبحها ومسائها ونهارها وليلها. وقد تطلب نشوء هذه الجماعات أنماط حياة يومية مختلفة عن حياة الجماعة.
أتذكر ذات يوم أن أحد الكتاب الأصدقاء كتب لي رسالة مطولة، أبدى فيها انبهاره بالتفاصيل التي قرأها في إحدى قصصي، مصاحبة لمن يستقل الحافلة في مشوار يومي. هاله أن تكون هنالك كتابات على ظهور المقاعد، لا تقيم وزناً لما نتشدق به من قيم وأخلاق وذوق عام. ثم أخبرني بأنه يحسدني لأنني أتمكن من أن أعيش مثل هذه التجربة، بينما هو لا يستطيع!
وبالعودة إلى البداية، أجدني مضطراً للقول: إن الكتابة التي تبحث في ترتيب الفوضى أو العشوائية، معنية بتعديل اختلالات اجتماعية يومية، قبل تعديل عشوائية الوجود نفسه، فالاختلالات الاجتماعية والسياسية ماثلة بكامل عريها أمامنا، وتشاركنا طاولة الطعام وسرير النوم وحافلة الركاب، فكيف نتركها؟
damra1953@yahoo.com
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .