حُبّ one way
القصة قفص من حمام.. تطلق المفردات عالياً لتحلّق في اتجاهات مختلفة، تراقبها، ترسمها، تطير معها.. ثم تعود لك بحكاية الغيم والمطر وقد تخضّبت أطراف أجنحتها بزرقة السماء.. ومهما كان القاصّ مجنوناً أو حنوناً أو خيالياً ليكتب رائعة في الحب والرومانسية، فإنه لن يصل إلى رومانسية ذلك الرجل التايواني في محطة القطارات..
«آه جي» رجل تايواني حضر قبل عشرين عاماً إلى محطة القطارات «تاينان» ليرى حبيبته المنتظرة، لكنها لم تأتِ، وصلت الرحلة الأولى، نزل ركابها، مرت حقائبهم بعجلاتها المدوّرة الصغيرة أمامه، ثمة سيدات بسيقان لامعة، ووجوه تكسوها فرحة الوصول، تمر مسرعة من درج القادمين، لكنه ينتظر حبيبته التي لم تأتِ، تعالى صوت نداء الرحلة المغادرة، تحضّر الركاب، ركبوا، تحرك القطار ببطء ثم انطلق، حضرت الرحلة الثالثة والرابعة لكن حبيبته المنتظرة لم تأتِ.. حلّ الليل سريعاً على سماء المدينة، الأضوية في عينيه مجرد شموع أمل وصلوات لحضور الحبيبة، تعب من الوقوف والتفحص في وجوه المسافرين، تمدد على كرسي الخشب، حضن باقة الورد وتغطّى بجريدة ونام لليوم التالي..
في الصباح الباكر هم لاستقبال الحبيبة، حام حول الدرج الكبير الذي ينزل منه القادمون، لكنها لم تكن بينهم، الرحلة الثانية، الثالثة، العاشرة.. حلّ الليل من جديد، وبقيت صور المارين التي تلف في شريط ذاكرته، وأصوات النداء ومكبرات الصوت والموسيقى الصاخبة تخترق مسامعه كل حين، تعب من الوقوف، تمدد على كرسي الخشب، حضن الباقة الذابلة ونام..
يقول بعض العاملين في إدارة المحطة إنهم لا يعرفون حتى اللحظة إن كان من ينتظرها حبيبته بالفعل أم أنه كان سيلتقيها للمرة الأولى، على أية حال يبدو أن الرجل استمرأ فكرة الانتظار، وتحول من متسول للحب إلى متسول يثير شفقة المسافرين والعارفين بقصته القديمة المضارعة، فباتوا يعطونه مصروف المعيشة وبغشيش الحب..
التايواني اسمه «آه.. جي»: تنهد المجيء.. وتأوه الحضور والأفول.. ستبقى مأمور الغائبين يا صديقي.. حتى تغيب في رحلة الزمن الأخيرة.. منذ عشرين عاماً وأنت تستجيب لصافرة العربة، ولا تستجيب لصافرة اليقظة، تنكت التراب عن ملابسك وتنتظر حبيبة لن تأتي.. في كل رحلة تفتش الوجوه كموظف الجوازات.. تراقب الحركات، تختبر النظرات، تتابع الخطوات، ونقر الأقدام على البلاط.. وتصل الرحلة بعد الرحلة ولا تصل الحبيبة الفكرة.
آه.. جي.. نحن مثلك يا صديقي.
منذ 70 عاماً ننتظر «الصحوة» ولا نقابل إلا «النكبة» تلو «النكبة»..
ahmedalzoubi@hotmail.com
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .