مزاح.. ورماح

عصافير الصوم

أحمد حسن الزعبي

كنت تقيّاً ورعاً منذ المراحل الأولى من الطفولة، ولم أستغل أياً من الرخص أو مبيحات الإفطار حتى وأنا دون السادسة من عمري قاصداً الأجر الكامل، وقد كنت مضرباً للمثل عند والديّ رحمهما الله، عندما كانا يتباهان بي أمام الأقارب حول التزامي في صيامي كصيام الكبار، ولم أكن أشعر وقتها بتأنيب الضمير، لأني لم أكن أعرف أن شرب الماء خلف «خابية» الفخار في ظهر وعصر الصيام يُفطر، كما لم أكن أعرف أن أكل بقية السحور في الصباح الباكر والأهل نيام من المفطرات أيضاً، عدا ذلك فقد كنت أصوم كما يصوم الكبار ولله الحمد!

على أي حال لم تستمر واقعة «الخابية» غير عام أو عامين، وبعد ذلك التحقت بركب الملتزمين أو بركب المطروحين أرضاً من العطش والجوع في النهارات القائظة قبل 35 سنة، حيث بقيت أقوم بواجبات البيت حبواً بين الغرف، وفي أحسن الأحوال أمشي على طريقة أحدب «نوتردام» في الحارة حتى أقضي أغراض البيت.

رمضان هذا العام، ترفّع عنصر جديد في العائلة من رتبة «عصفور» إلى رتبة «خنشور» ليصبح العدد الإجمالي المكلف بالصوم أربعة أشخاص، وقد راقبت في اليومين الماضيين سلوك هذا العنصر، ومراحل «ألتضوّر» عنده من «النوم ع البطن»، ومشاهدة برامج الطبخ على طريقة «دجاج الماكينة»، يداه ورجلاه ملتصقة ببطنه المصفوق، كما راقبت ملامحه جيداً، عيناه غائرتان مثل الراحل عبدالحليم حافظ، ولسانه مرتخٍ ومكوم في زاوية فمه اليسرى، بطنه المكشوف للهواء البارد يشبه حفرة الانهدام، وسرّته تشبه إلى حد بعيد فوهة «الغليون»، لكن أغرب وضعية شاهدته فيها، كان ساجداً، خدّه اليسرى ملتصقة ببلاط الغرفة ويداه مرفوعتان إلى أعلى على طريقة الطيور، قلت له: أنا أفهم في اليوغا جيّداً، لكني لم أرَ هذه الحركة إلا عندك يا بنيّ!

أكثر ما أضحكني، عندما أنهى إخوانه الآخرون غير المكلفين إفطارهم، بأن تناولوا بقية السحور البائت صباحاً، طلب من أمه راجياً أن يستمرّوا في الأكل، وعندما سألته أمه عن المغزى قال ببراءة شديدة: «حاب أتفرج كما شوي»، أحسست أن الفتى يحضر فيلماً لـ«عادل أمام» لا مجرد أطباق فارغة وملحّسة تماماً.

أخيراً، أفهمته أمه بأن الصغار يصومون صيام العصافير، أمّا الكبار «مثلك» فيصومون صياماً كاملاً كصيام الرجال، تنهّد طويلاً، وقال: «هي عصفورتنا متى بتأذّن؟».

ahmedalzoubi@hotmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر