مكعّب حرية!

نحتاج إلى جهاز «طرد مركزي» بالحجم الأممي، لنقوم بتحليل بعض العينات من أمتنا العربية، التي عجزت كل كتب علم النفس عن تحليل مكنوناتها أو فهم سلوكها المضطرب المتحدّي، خصوصاً في «مناطحة» الحضارة. الغريب أن العربي يفخر بعطره الفرنسي، وساعته السويسرية، وخادمته الآسيوية، وسيارته الأميركية، ونعله الإيطالي، وهاتفه الياباني، ويصرّ على أن يتكلّم الإنجليزية في بلاده أكثر من لغته، حتى مع عامل المقهى الصعيدي، وعند ذهابه في إجازة أو دراسة إلى نموذجه المحبب في الغرب، وفور وصوله إلى مطار هيثرو، يصر على ألا يتكلم مع أصحاب اللغة إلا بلهجته الضيقة، التي لم يكن يستخدمها مع أهله قبل ساعات، ولا يتوانى في استخراج فتات «السلوك» السيئ من جيبه، كالمحارم التالفة، ليقذفها في وجه الحضارة.

**

قبل أيام تداولت مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع لشباب عرب، يقضون سياحتهم على طريقتهم في أوروبا الموحدة، فقد أظهر المقطع الأول سياحاً من ربعنا يدخنون «الشيشة» في ساحة برج إيفل، الشيشة بكامل قيافتها، الجمر ناضج، والبربيش جديد، والنفس «سهل»، والسحب ممتاز، السياح القادمون من كل أصقاع الأرض يرفعون رؤوسهم عالياً ليروا قمة العجيبة الفرنسية، وجماعتنا القادمون من بلاد العرب أوطاني يخفضون رؤوسهم ليروا «سحب» عجيبة «المعسل البحريني». بالمناسبة ثمة تشابه بين برج إيفل و«الشيشة»، أولاً من حيث الشكل، فكلاهما رفيع القوام، ومنبعج في القاعدة، ومن حيث المفعول، فكلاهما «يدوّخ»، لكن يبقى الاختلاف الوحيد في إمكانية تغيير الرؤوس!

**

المقطع الثاني لا يقل غرابة عن المقطع الأول، حيث أصر بعض السياح العرب على أن يفرشوا «الحصيرة»، ويفردوا طناجرهم، ويخرجوا قطع «الضأن» وبصلهم وفلفلهم في حديقة الـ«هايد بارك» الشهيرة، ليعدوا طبختهم بأنفسهم، غير آبهين للعيون المنتقدة، مادامت عيون الغاز متّقدة. في الـ«هايد بارك»، وبالقرب من الـ«Speakers Corner»، أو ما يعرف بزاوية المتحدّثين، حيث يقف أي شخص أو جماعة أو حزب ليقول رأيه بكل حرية، وينتقد ويشتم بحرية مطلقة، فهذه المنطقة أوجدت بحكم القانون ليقول الناس آراءهم، ففردَ العرب طناجرهم.

تخيلوا في المكان الوحيد الذي يحق للمرء فيه أن يتنفس الحرية من رئة «القانون»، المكان الوحيد الذي يستطيع أن يقف فيه المرء ويرمي أكياس الملح عن ظهره، ويطلق فيه الآه، نيابة عن أوجاع وطنه، في المكان الوحيد الذي يحق فيه للمكبوت أن يرفع صوته، ويشير بيده، ويلقي خطبته في الهواء الطلق، دون أن يتوسد السجان بعدها، أو ينام فوق المعذّبين بأوطانهم، يأتي بأوانيه ليذوب مكعب الحرية في شوربة الخنوع.

**

في المكان الوحيد الذي أوجد لترفرف فيه «الحنجرة»، آثر العربي أن يخرج عن صمته ويغلي «الطنجرة».

ahmedalzoubi@hotmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

الأكثر مشاركة