الموت والشهادة
كتب الله تعالى الموت على الخليقة كلها، في أوقات قدرها، وأسباب حددها، وأنفاس عددها، فلا مجال لأن يتزايد المرء على مقدور ربه، فإنه لن يُجدي نفعاً في ذلك، فهو سبحانه القائل: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} فلم يستثنِ من هذا العموم شيئاً، والقائل: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}، وهو سبحانه الذي يدري لا أحد سواه، فليس بمقدور المرء أن يختط لنفسه موتاً معيناً، ولا زماناً أو مكاناً معينين، حتى وإن كان جانياً على نفسه، فإن ذلك أيضاً بمقدور الله تعالى، ولكن عليه وزرٌ عظيم باستعجاله ما لا يعلم حقيقته، وتعديه على مملوك الله تعالى، ولتحقيق ذلك جعل لكل موتٍ سبباً، فهناك موت حتف أنف على الفراش بمرض أو فجأة، وهناك موت بفعل الخلق بالتعدي والعدوان، اعتبره الحق سبحانه ظلماً عظيماً، إلا أن ذلك الذي اعتُدي عليه ليس كمن مات حتف أنفه، فهذا جعل الله موته حياة، وخاتمته سعيدة، وآخرته جنة عالية، جزاءً له على ما جاد به لربه من نفس ثمينة، والجودُ بالنفس أقصى غاية الجود.. فلم يجعل الله تعالى موتَ هذا كموتِ ذاك، فهذا الذي استشهد في سبيله حي يرزق وينعم، ويُشفَّع في أهله وأقاربه، ويسرح في الجنة التي أعدها الله تعالى لأمثاله حيث شاء.
إذا كان موت الشهيد حقيقته حياة لا تقارن بحياة الدنيا المليئة بالمنغصات المكدرات، فينبغي أن يحل محل الحزن الفرحُ. |
فعُلم من ذلك أن هناك فرقاً كبيراً بين موت مقدَّر على الفراش، وموت مقدر في ساحات الوغى نصرة للدين والحق والوطن، ورحم الله المتنبي القائل:
ولو أن الحياة تبقى لحيٍ لعددنا أضلنا الشُّجعانا .. وإذا لم يكن من الموت بدٌّ فمن العجز أن تموت جبانا
وإذا كان كذلك فلا جزع على مقدور الله في ما كتبه وقضى به، إلا أن يجزع المرء على سلوة النفس ببقاء الأحبة ودوام الألفة، وذلك ما لا مقدور للمرء في دفعه بجِبلّته البشرية، وهي التي كان يعبر عنها المصطفى، صلى الله عليه وسلم، بقوله: «إن العين لتدمع، والقلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا»،
وإذا كان موت الشهيد حقيقته حياة لا تقارن بحياة الدنيا المليئة بالمنغصات المكدرات، فينبغي أن يحل محل الحزن الفرحُ بفضل الله تعالى على ذلك المنعَم عليه بالشهادة، الذي لا خوف عليه ولا حُزن، بل ويستبشر بقدوم أهله عليه، فيُغتبط على منزلته، ويتمنى الموفق خاتمة سعيدة كخاتمته، فما كل متمنٍّ للشهادة ينالها حقيقة، وإن نالها أجراً بنيته الصالحة، كما قال صلى الله عليه وسلم: «من سأل الله الشهادة بصدق، بلغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه».
* «كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»