كرت أبيض..

لم تعد الطبقية محصورة على بني البشر وحدهم، بل قفزت إلى حيواناتهم الأليفة ومقتنياتهم من الكائنات الحية، مثلاً عندما أتمشى بين الأحياء الراقية، أرى أحياناً بعض الكلاب الناعمة التي تطل من الشبابيك على استحياء، وبعضها الآخر يتكوّر في الكرسي الخلفي من السيارة، وينظر إلى كل المارّين حوله بتعجرف وأنفه، فيما يبقى القسم الثالث محضوناً في فسحته النهارية من قبل «شغّالة» آسيوية، جاءت من بلادها المملوءة بالكلاب الضالة، من أجل طلب الرزق، وأنا أنظر إلى عينيّ هذا الحيوان المحظوظ، أشعر بأنه صار من الضروري إطلاق اسم جديد لكائن «الفترينات» والأرستقراطية الغارقة بالدلال، فليس من الإنصاف أن يُدعى الكلب المكافح المطارد بين البيوت الشعبية، بالحجارة والأحذية القديمة «كلباً»، وذلك الجالس في أحضان العائلة وخدمها «كلباً»، الكلب الأرستقراطي لا يلهث، ولا ينبح، هو بالكاد يرمش أو يتنفس، ولكثرة سكونه وهدوئه أخاله دمية من الصوف، كما أنه ساذج وضعيف الشخصية، لو غادر منزل خادميه فلن يندلّ على مكان إقامته أو يعرف طريق العودة، على العكس من الكلب الشعبي الذي لا يترك حاوية إلا ويقفز بداخلها، ولا كيساً إلا ويمزّقه بمخالبه، بحثاً عن لقمة عيشه، وإذا ما وجد عظمة مكسوّة بطبقة رقيقة من الشحم، ينبح طويلاً فرحاً وسروراً على هذه النعمة، التي جاءته من غير ميعاد، كما أنه يحتفظ بخرائط دقيقة في ذاكرته لحاويات القمامة، وعناوين الملاحم، وأماكن البراميل «الدسمة» في الأزقة والشوارع، فهي تبرز كنقاط مضيئة في تعرجات «جي بي إس» الجوع خاصته، وفي الوقت الذي ينعم فيه الكلب المرفّه بشامبو خاص، وعطر يليق بسمعته ومكانته، فإن الكلب الشعبي غالباً ما تفوح منه رائحة «السولار» لمبيته في المدن الصناعية، وتحت الشاحنات المتوقفة للصيانة.

 فاجأني صديق «حديث العهد بالأرستقراطية»،عندما قال إنه بات يقتني كلباً من فصيلة غريبة لا أذكر اسمها، وإن كلبه الذي كان يدلعه بــ«ماك» لديه «كرت تطعيم» مكتوب فيه جميع اللقاحات التي أخذها في جميع السنوات والشهور السابقة، وأنه يأخذه كل حين إلى حلّاق خاص ليقص شعره الناعم، وعندما سألته عن أجرة الحلاق، فقال: «70» دولاراً في كل زيارة، ضحكت من كل قلبي، وتذكّرت طفولة الصديق نفسه الذي دخل المدرسة بكرت تطعيم أبيض، حيث لم يتلقَّ لقاحاً واحداً في حياته، إلا مطعوم الكزاز، حتى قام الطبيب المناوب في مديرية الصحّة بتعبئتها غيباً، وبتواريخ عشوائية، ليتمكن من دخول المدرسة، كما أذكر أن الصديق نفسه الملقّب بــ«الطنجير» ظل طوال المرحلة الجامعية، يحلق شعره ويقلم شواربه وينتف شعر الوجنتين بالخيط، وأخذ سيجارة من باكيت الحلّاق بما قيمته «خمسة» دراهم.

 لذلك إذا قال لك أحدهم إن فلاناً يعيش عيشة الكلاب، لا تتسرّع وتتعاطف معه! فقط اسأله «أي كلاب فيهم؟ (كلاب اللي فوق) و(لا كلاب اللي تحت)»!

 ahmedalzoubi@hotmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

الأكثر مشاركة