«خُد فكرة..!!»
في الأسواق الشعبية بمنطقة الحسين، الواقعة في العاصمة المصرية القاهرة، لدى الباعة الذين تتكدس بضائعهم المرتحلة من عصور الحضارات المتعاقبة على «بلد الغلابة»، العديد من التكنيكات للبيع، ولكن أحد أهمها وأكثرها استخداماً وشعبية هو تكنيك «متشتريش يا باشا... بس خش خد فكرة»، العرض في مجمله لطيف نوعاً ما، وإن كانت الاستجابة له تتم بحذر؛ بينما البائع يؤشر لك بطريقة مُطمئنة: «متخافش مش هتدفع حاجة.. خد فكرة بس».. تتقدم متردداً وأنت تقول في نفسك: ما المانع في أن آخذ فكرة؟ متى قتلت المعرفة الإنسان.. فلأملأ عيني بجماليات هذه الحضارة التي لم تقم على الأرض حضارة مثلها بهذا الكم من المعرفة والجمال والتنوع والإبداع والزخم.. وقمنا بتسميتها بكل سذاجة بالفرعونية بدلاً من المصرية، لكي نقع في فخ تاريخي آخر بين الافتخار باللفظ في بعده الحضاري، والاشمئزاز منه لبعده القصصي في القرآن الكريم.. وما أكثر فخاخ التاريخ التي نسقط فيها رغم أن حلولها سهلة بحجم تغيير كلمة واحدة!
بالطبع، لا شك في أنك قد جرّبت مثلي واستجبت لمشروع «خد فكرة مجاناً» لتجد نفسك متورطاً، وقد أصبح نصف جسدك فعلاً مطموراً في الرمال المتحركة، فلا تخرج من المحل المعني إلا وأنت تحمل سبعة أكياس مليئة بأضراس الفراعنة القدماء، وقطعة من جلد ماعز مكتوب عليها رسالة نادرة من الفرعون «منهيت» الثالث إلى ابنته.. ولكنها مكتوبة باللغة الإنجليزية! مهو منهيت يا باشا ده كان بيتكلم لغات.. حسناً ولكن ما أعرفه أنه لم تكن لديه ابنة.. لا يا باشا دي كانت متبنينها يتيمة وبنت غلبانة.. تتذكر فجأة أن «منهيت» هو أحد الآلهة الفرعونية أصلاً ولم يكن فرعوناً.. إيه يا باشا هو احنه هنغشك.. طب خلاص ما تحاسبش!.. وبسبب خوفك من زعل البائع الذي لن تراه مرة أخرى.. تقوم بمنحه ما يزيل الزعل.. مع حلفك له بأنك كنت تمزح وأنك سوف تسمي ابنك القادم «منهيت» إكراماً لعينيه..
مازالت محتويات تلك الأكياس السبعة متناثرة حولك، أو تعود إليها، أو تراها، أو تسترجع شيئاً من جمالياتها اليوم، صحيح أنك كنت تشعر بأنك قد غُبنت في وقتك أو مالك أو جهدك.. أقول هذا وأنا أداعب هرماً أسود جميلاً على مكتبي أعتقد أنه قد أكمل عامه الخامس عشر هنا.. نظرية «خد فكرة» ليست خاسرة تماماً؛ سواء كانت في أسواق الحسين الشعبية أو في سوق حياتك، التي لا تتوقف مهرجاناتها على مدار العام.
كثيراً ما نقف على أعتاب المشاركة في نشاط معين، أو تعلّم مهارة جديدة معينة لأنها لا تندرج ضمن تخصصاتنا، فما الذي يمكن أن يفعله الإعلامي بأخذ دورة في مجال ترميم المخطوطات؟ أو ما الذي يفعله المهندس إذا تعلم أسس التقديم الإخباري؟ ما الذي يهم الطبيب في دورة متخصصة في تصليح أجزاء الأقمار الاصطناعية عند انعدام الجاذبية؟ هكذا تبدو الأمور في ظواهرها.. ولكن الحقيقة هي أنك حين «تاخد فكرة» عن موضوع ما فإن هذه الممارسات، مع إبعادها لك عن خط تخصصك الروتيني، تفتح لك أبواباً سحرية لا تعرف متى تعود عليك بالفائدة الأدبية أو المعرفية، أو حتى اكتشاف جماليات الحياة من زواياها الأخرى..
جرب.. واسمع كلامي.. خد فكرة.. متشتريش!
#عبد الله_الشويخ
Twitter:@shwaikh_UAE
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .