قهوة وزيت
نحن جيل نصلح جميعاً أن نكون ضيوفاً في برنامج «شاهد على العصر»، أو مادة دسمة للبرامج التحقيقية، فنحن لا نقل حظوة من الناجين من سقوط الطائرات، ولا من السالمين من مكائد الاغتيالات، فلنا تجارب غنية لها أول وليس لها آخر من الاستطبابات الشعبية، والعلاجات المنقولة بالتواتر من عجائز الحي، ووجودونا بهذه الهيئة وبأنصاف الحواس السمعية والبصرية، إنما هو أعجوبة من عجائب الدنيا التي لا تعد ولا تحصى.
في الزمن القديم، كان هناك طبيب عام واحد في المحافظة يمارس كل ما أتيح له من صنوف الطب، إذ كان الاختصاص آنذاك تقليعة لم تظهر بعد، القادرون من الفلاحين والبسطاء كانوا يغامرون بالذهاب من القرية إلى مركز المحافظة لعلاج الطفل الذي بين يديهم، حسب وقت فراغهم، والكثير الكثير من المنشغلين في الفلاحة أو الحصاد كان يكتفون بأن يرسلوا زوجاتهم إلى إحدى الجارات الطاعنات في الحكمة، التي تتضمن سيرتها الذاتية أكثر من 30 حفيداً 13 ذكراً وتسع إناث وسبع من الوفيات المبكرة، أو ما يسمّون طيور الجنة.
تحضر الجارات ونساء الحي إلى «مايو كلينك» البلدة، عبارة عن غرفة من طين وعجوز تمد ساقها قرب مدفأة الحطب وبيدها مسبحة من نوى الزيتون.. ترحّب بجميع المراجعين دون استثناء ودون أي اعتبار للدور أو رغبة في حفظ الأسماء، لا تطرح أكثر من سؤالين: ماله؟ ووين بـ«يحكّ؟».
العجوز: ماله؟ الأم: ببكي؟ العجوز: وين بيحك؟ الأم: أذنه!. تضع «الحجة» الطفل في حضنها.. ثم تصب كمية قليلة من قهوة في فنجانها حتى تبرد.. تنفخ عليها.. ثم تديرها في أذن الصبي يصرخ من جديد ثم ينام من الوجع..
الذي يليه.. ماله؟ الأم: يبكي طول الليل؟ وين بيحك؟ بطنه.. تأخذه من جديد وتضع قطرات زيت على كفها ثم تدهن بطنه وتدلكه بحركات مساجية فيرتاح الولد.
الثالث.. يبكي! لا يستطيع أن يفتح عينيه من القذاء.. تأخذ «تفل» الشاي الذي في قاع الكوب الذي كانت تشرب منه وتدهن رموش وعيون الوليد.
الرابع الذي يعاني زكاماً.. تدهن رقبته بالزيت، وتضع في أنفه قطرة ليمون وتشربه ملعقة خل مخفف بيطلع الولد من بين يدين «الحجة» «صحن فتّوش».. أنا خضعت لصب قهوة سادة في أذني اليمين وزيت حلاوة في أذني اليسار.. وتحت إبطي منقوع القرفة.. ولو كانت شركة نستله قد اهتدت إلى «3 في واحد» لوضعته حكيمة الحي على «سرّتي».. كنت أسأل نفسي لم يقتصر علاج عجائز البركة على «الزيت والقهوة»؟ وما الخلاصات العلمية والطبية منهما؟ لأكتشف أن المسألة ليست لها علاقة بالخلاصات، وإنما بـ«القرب» فأقرب شيء على مجلس الختيارة.. بكرج القهوة وإبريق الزيت.. تصب منهما أنّ شاءت بنية الشفاء الذي غالباً ما يحصل.. بسبب بركة يدها وبسبب اكتساب للطفل المناعة مع تقدم العمر.
على كل حال نصف «طرشان الحي»، بسبب «القهوة اللي بدون وشّ»!
ahmedalzoubi@hotmail.com
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .