الحالُّ المرتحل
حلَّ علينا شهر رمضان، شهر العفو والغفران، واستقبلناه بحب وتحنان، ونية صادقة على طاعة الرحمن، وعشنا في أيامه ولياليه في رضا الرحمن، بين صيام وقراءة القرآن، وصدقات وإحسان، ونسأل الله القبول والتوفيق لما بقي من الأزمان، وها هو قد آذن بالرحيل، وما ندري إن كنا فيه من الفائزين، فما كان أحلى أيامه بين سياحة الجسد بالصيام والقيام، وسياحة الفكر بالذكر؟!
عشنا فيه صفوة العمر بالطاعة والإنابة، والإقبال على الله تعالى بالكليَّة، عشنا فيه لله مراقبين، ولأنفسنا محاسبين، ولغيرنا محسنين، وللآخرة متذكرين، عشنا في بحبوحة الأمن والأمان في ربوع الأوطان، فوجدنا لذة العبادة، وأحسّسنا بذوق الطاعة، وشكرنا الله تعالى كثيراً.
وها هو شهر الصوم والصبر والقيام والإحسان قد أوشك على الرحيل، وسيكون شافعاً للصائمين والقائمين، وسيختم بغفران الله تعالى للمقبولين، وقد كان من السلف من يندب فراقه ندب الثكلى، فكان مما قال: «ما كان أشرف زمانه بين صوم وسهر، وما كان أصفى أحواله من الكدر، وما كان أطيب المناجاة فيه بين وسط الليل والسحر، وما كان أرق القلوب عند انشغالها بالآيات والسور، وها هو قد دنا رحيل هذا الشهر وحان، فرب مؤمل لقاء مثله خانه الإمكان، فودعوه بالأسف والأحزان، واندبوا عليه بألسُن الأسى والأشجان، ويا ليت شعري هل تعود أيامه علينا أم لا تعود، ويا ليتنا علمنا من المقبول منا ومن المطرود، ويا ليتنا تحققنا ما يشهد به علينا يوم الورود، ويا أسفا على تصرمك يا شهر السعود، ويا حزنا على صفاء القلوب وإخلاص السجود».
يندب فراقه بهذا الأسلوب؛ لأنه العمر الذي تعامل فيه العبد مع مولاه بعبادة لم يعبد بها أحد سواه، ولا يجازي عليها كفاحاً غيره، ولا ينال من أجرها خصماؤه، فتكون سبباً للعتق من النار، والفوز بالجنة في دار القرار، فهو شهر لم يكن للشيطان فيه سبيل، ولا للنفس فيه حظ، وذلك هو محض العبودية التي ترقي المرء لمرتبة المتقين، وهي المرتبة العظيمة التي أعد الله لأهلها منازل في جناته لا تدرك إلا بالصيام، ولا يوجد مثل هذا الأثر على سبيل التحقيق في أي عبادة سواه.
فشهر يحقق للعبد هذه المرتبة التي هي مناط قبول الأعمال، ومفتاح الوصول إلى تحقيق الآمال بسعادة الحال والمآل، حقُّه أن يندب ويناح عليه، حيث لا يجد المرء مثل هذا الفضل في غيره، وها هو قد دنا رحيله، فكيف الوصول إلى مثله وهو محفوف بخطر الفوات في كل الأوقات.
لكنه يحمِّل المرء تبعة الاستقامة على منهجه ومشربه، حتى يكون أثر الصوم عابقاً في نياته وأقواله وأفعاله، فقد كان سلوة المؤمنين، وبغية الصادقين، فعليهم أن يحافظوا على عهده، فإن من أحب شيئاً أكثر من ذكره، والسير على رسمه وهديه، كما يشير إلى ذلك قوله سبحانه {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} ثم بين لازم هذه المحبة بقوله سبحانه: {يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
ومحبتنا لشهر رمضان، لأنه كان أحب العبادات لله تعالى، كما يدل عليه الحديث القدسي: «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك». وما كان كذلك إلا لما فيه من الإخلاص والإنابة لله رب العالمين، والتزكية التي يتزكى بها الصائمون، وهي الغاية العظيمة من بعثة سيد الأولين والآخرين، صلى الله عليه وآله وسلم، ومثل هذه الصفات العظيمة يتعين أن تكون ملازمة للمرء في جميع أحواله، فإذا كان قد تحلى بها في وقت ليس بالقليل، فمن السهل المحافظة عليها في بقية عمره، فيكون ممن استقام على الطاعة التي هي معيار السعادة الأبدية، والتي يكون لأصحابها البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
نسأل الله أن يختم لنا شهره الكريم بعفوه وغفرانه والعتق من نيرانه، وأن يعيده علينا أجمعين بالعفو والعافية والرضا والنعيم.
«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .