مزاح.. ورماح
«ليتك لم تعد!»
للذاكرة طقوسها العجيبة؛ فهي كما أنها لم تعد تسعفك في تذكر وجوه أو أسماء من قابلتهم منذ أيام عدة فقط، وتضعك في حرج التبسم والانشراح والدخول في موضوعات عامة، وأنت تحاول جاهداً تذكر المكان والحوار الذي رأيت فيه هذا الوجه، كي لا تسقط في فخ عدم المعرفة وعدم الاهتمام؛ وبالتالي فأنت عميل لقوى الشر، التي تريد النيل من المكتسبات الحضارية، هي ذاتها تلك الذاكرة، التي تحتفظ - بشكل رائع - بالوجوه القديمة، بل وتجعلك تميزها من بين مئات الآلاف من الوجوه، حتى إذا فعل الزمن فعلته بها.. هذا الوجه هو النسخة الحديثة (وليست بالحديثة) من وجه ذاك الطفل.. طريقة سماوية ما!
وليس هناك ما هو أسعد عندي من رؤية وجه قديم.. قديم جداً، وجه من أيام ما قبل الطفرة، التي أصبحت (طفرة) فعلاً لشدة ما عملته في قلوب ونفسيات المجتمع، وجه يحمل معه كل دلالات تلك الأيام الجميلة، نومة السطح.. حمل «المصجبة» دون خوف من سؤال.. وجود فسحة حقيقية لوضع خيمة رمضانية دون أن تعيق المرور.. الخروج بـ10 دراهم بتوكل حقيقي بأنها ستكفي وربما ستزيد.. النظر بفخر لشعار النادي الذي تحبه، والذي كان ذات يوم يتصدر الترتيب العام.. إمكانية الوصول إلى دبي بثلاثة دراهم والعودة بأربعة.. وجوه تلك الأيام لا تنسى!
حينما تعانق وجهاً من تلك الحقبة؛ فأنت لا تعانقه هو حقيقة، لكنك تعانق نفسك في تلك الأيام، تعانق نفسك التي لم تعد تعرفها، أين ذلك الذي كنته أنت؟ ماذا دهاك؟
وبالمثل.. فإن الكثير ممن تلتقي معهم تلتقي معهم وأنت تحمل تلك الذكرى، ذكراهم فيك.. أو ذكراك فيهم، لهذا أيضاً فإن أسوأ ما يمكن أن يصيبك نفسياً هو أن تكتشف كم تغيروا؟ فتنطفئ السعادة بسرعة كما اشتعلت.
يعود الطفل القديم إلى عالمه، فيتخيل أنه سيجدهم كما تركهم.. سيجد الأرواح الطاهرة نفسها، الضحكات من القلب نفسها، الشخصيات نفسها التي لا تعرف الخبث ولا الحسابات المعقدة؛ تلك الشخوص التي كنت تعرف أنها غاضبة منك، حينما تصل إلى دائرة قطرها ثمانية أمتار مركزها هم! لأنهم لم يكونوا يعكسون ما لا يبطنون.. وغضبتهم تنعكس ملامح في وجوههم، لا خناجر في ظهرك!
لكن الحقيقة هي أن الذاكرة إن لم تخن فالواقع يخون، ستجد أن كل شيء تغير حتى أرواحهم.. وحديثهم.. ومجالسهم.. نصيحتي لك: إذا كنت تحب ذكرياتك لدرجة القداسة فلا تقترب منها، اتركها كما كانت حين الفراق؛ لأن اقترابك من وجوه الماضي سيصدمك بمدى تغيرها، وسيجعلك تتمتم في وجه صديقك القديم: ليتك لم تعد!
Twitter:@shwaikh_UAE
#عبدالله_الشويخ
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .