قد اجتمع في يومكم عيدان
ما أعظم هذا اليوم وأكرمه على الله تعالى وعلى الناس! فهو يوم الحج الأكبر، الذي يُتم فيه الحجاج معظم أعمال نسكهم، وبه يفرح الناس على تمام نعمة الله عليهم بإكمال دينهم وتمام حجهم أو حج إخوانهم المسلمين، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «أعظم الأيام عند الله يوم النحر، ثم يوم القَرّ» أي يوم الحادي عشر، وقد خطب النبي، صلى الله عليه وسلم، الناس يوم النحر خطبة عظيمة بين فيها حقوق المسلمين بعضهم على بعض فقال: يا أيها الناس أي يوم هذا؟ قالوا: يوم حرام، قال: فأي بلد هذا؟ قالوا: بلد حرام، قال: فأي شهر هذا؟ قالوا: شهر حرام، قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، فأعادها مراراً، ثم رفع رأسه فقال: اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟، قال ابن عباس رضي الله عنهما: فوالذي نفسي بيده إنها لوصيته إلى أمته: فليبلغ الشاهد الغائب، لا ترجعوا بعدي كفاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض.
فهي وصية رسول الله للأمة، وبيان بعظم حقوق بعضهم على بعض، ولم تكن بياناً للعبادات، مع أن الزمان والمكان يقتضيانه، لأن حقوق العباد من جواهر الدين، فتحتاج الأمة إلى مثل هذا البيان لتحفظه وتراعيه، إن كانت تؤمن بالله ورسوله، ولو أنها فعلت ذلك لكانت اليوم في سعادة تتبعها سعادة.
ومن محاسن الصدف في هذا اليوم العظيم أنه، مع كونه عيد العام؛ فإنه عيد الأسبوع، وهو يوم الجمعة، فهو في «خير يوم طلعت عليه الشمس» فاجتمع لنا فيه عيدان؛ وكل من العيدين يستدعي من المسلم الشهود والصلاة وسماع خطبتيهما.
فقد يتكاسل الناس عن صلاة الجمعة أو ينشغلون عنها بذبح الأضاحي والزيارات، فيكونون قد أضاعوا فرضاً بفعل سنة.
وقد يقال: إن شهود صلاة العيد يغني عن الجمعة، وهذا خطأ لا ينبغي الركون إليه، فإن صلاة العيد سنة، أما صلاة الجمعة ففرض عين على من كان من أهلها، لقول الله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾فقد روى ابن خزيمة عن جابر بن عبدالله، رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ترك الجمعة ثلاثاً من غير ضرورة طبع الله على قلبه».
وأما الاستدلال بحديث البخاري عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، خطب الناس وقال «يا أيها الناس، إن هذا يوم قد اجتمع لكم فيه عيدان، فمن أحب أن ينتظر الجمعة من أهل العوالي فلينتظر، ومن أحب أن يرجع فقد أذنت له»، فإن هذا في حق أهل البوادي خاصة، وهم الذين يحضرون صلاة العيد، ولا جمعة لديهم، فيشق عليهم الرجوع لأداء صلاة الجمعة، كما يشق عليهم البقاء لانتظار صلاة الجمعة، فرخص لهم النبي، صلى الله عليه وسلم، تخفيفاً عنهم، فإن كان لديهم جمعة وجب عليهم أن يصلوها، حيث لا يجوز لهم سماع النداء ثم لا يلبونه، والله تعالى يقول: ﴿فاسعوا إلى ذكر الله﴾لحديث «الجمعة على كل من سمع النداء»، وإلى هذا ذهب جمهور أهل العلم، وهو الذي ينبغي التعويل عليه لصراحة الأدلة وقوتها.
وذهب السادة الحنابلة، في الرواية المشهورة عنهم، إلى سقوط وجوبها عن أهل البادية؛ إسقاط حضور لا إسقاط وجوب، فيكون حكم من حضر العيد كمريض ومسافر ونحوهما، فيصلي الظهر كصلاة أهل الأعذار، فإن حضر فهو الأفضل خروجاً من الخلاف، ويصح أن يكون إماماً ويتم به العدد.
والرواية الأخرى عن أحمد، موافقة للجمهور، أن الجمعة لا تسقط عن أهل البادية كما لا تسقط عن الأمام.
«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .