لحظة
«لماذا أنا ملحد»
في عام 1937 كتب إسماعيل أدهم رسالة مطوّلة تحمل عنوان هذا المقال، وذلك بعد أن قرأ نصّاً لأحمد زكي أبوشادي بعنوان «عقيدة الألوهية»، كان قد ألقاه في إحدى محاضراته، حاول فيه الجمع بين العاطفة والعقل والفطرة في إثبات وجود الله. تحدث إسماعيل أدهم في رسالته عن حياته التي عانى فيها بين استخفاف أختيْه المسيحيتين بالتوراة والإنجيل، وبين تعصب والده المسلم، الذي كان يفرض عليه القيام بالشعائر الدينية، فكانت الكتب ملجأه من تلك المعاناة، فقرأ الفلسفة والرياضيات، ونبغ في العلوم سريعاً، ويقول عن إلحاده: «إن الأسباب التي دعتني للتخلي عن الإيمان بالله كثيرة، منها ما هو علمي بحت، ومنها ما هو فلسفي صرف، ومنها ما هو بين بين، ومنها ما يرجع لبيئتي وظروفي ومنها ما يرجع لأسباب سيكولوجية»، وانتهت حياته بأن ألقى بنفسه في البحر منتحراً عام 1940!
بعد أن نشر رسالته، رد عليه أحمد زكي أبوشادي برسالة عنوانها «لماذا أنا مؤمن»، وكانت بلغة مؤدبة وراقية، ثم وجّه له الشيخ محمد فريد وجدي، الذي كان محرراً لمجلة «الأزهر»، ومؤلف «دائرة معارف القرن العشرين»، رسالة استهلّها بـ«إلى الأستاذ الدكتور إسماعيل أدهم..».
وفي التاريخ الحديث أيضاً كانت لشبلي الشميّل، الذي عُدّ مُلحداً يؤمن بالمادية دون الإله، حوارات مع الشيخ محمد رشيد رضا، وكان الأخير ينشر كتاباته في مجلته الشهيرة «المنار»، إذ كتب الشميّل مرة: «إلى غزاليّ عصره، السيد محمد رشيد رضا، صاحب المنار: أنت تنظر إلى محمد كنبي وتجعله عظيماً، وأنا أنظر إليه كرجل وأجعله أعظم، ونحن وإن كنا في الاعتقاد على طرفي نقيض، فالجامع بيننا: العقل الواسع، والإخلاص في القول، وذلك أوثق بيننا لعرى المودة.. من صديقك الدكتور الشْمَيّل». وقال عنه محمد رضا مرة: «رأيت أن ما يقوله شبلي الشميّل لا يتعارض مع الشرع». مع العلم بأن الشميّل كان يؤمن بنظرية دارون، واستخدمها لنقض الألوهية، وكان علمانياً، إلا أنه قال: «إن في القرآن أحوالاً اجتماعية عامة، وفيها من المرونة ما يجعلها صالحة للأخذ بها في كل مكان وزمان». وكتب قصيدة جميلة في مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول فيها «دَع مِن محمّد في سُدى قرآنهِ... ما قَد نَحاهُ لِلحْمة الغاياتِ... إِنّي وإِن أَكُ قَد كَفرتُ بدينهِ... هَل أَكفُرنّ بِمُحكَم الآياتِ».
رغم إلحاد أدهم والشميّل وغيرهما صراحة، إلا أن رجال الدين لم يشنّوا حملات للحكم بردتهم، ولم يطالبوا بمنع كتاباتهم بحجة حماية المجتمع من أفكارهم، بل حاوروهم في الملأ بالفكر والفلسفة والبرهان، وبأدب جمّ ولغة هادئة. حتى جاء «الإسلام السياسي» وسطا بجماعته وأيديولوجيته على العقول، وكفّر المجتمعات، وحارب الحريات الفكرية. ثم تبعه «الإسلام الصحوي» وقاوم كل فكرة مختلفة، وأغلق نوافذ النور على العقل الإسلامي، ونشأت أجيال - جيلي منها - على كره الآخر، وعلى الخوف من أفكار الآخر، وعلى رفض التعددية العقائدية والفكرية بكل أشكالها. والآن، بعد أن فسدت عقول ثلاثة أجيال على الأقل في العالم الإسلامي، كيف سنواجه التحديات العلمية التي تُطالعنا بها الأخبار كل يوم، من تعديل جيني، وقُرب انتهاء الأمراض من البشرية، وثبوت نظرية التطور التي تحولت إلى عِلْم ولم تبقَ نظرية فقط؟ وبعد غياب منهج التفكير من أدبياتنا في العقود الماضية، وانحسار الوعي بأهمية وجود الآخر المختلف بيننا حتى تستمر مسيرة الحضارة الإنسانية، فإننا نحتاج للتحلي بالشجاعة ونراجع قناعاتنا ونعترف بأننا في متاهة معرفية. يقول الإمام محمد عبده: «إن فكراً يكون مقيَّداً بالعادات، مستبداً للتقليد؛ لهو فكر ميت لا قيمة له».
yasser.hareb@gmail.com
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .