5 دقائق
دور الفتوى في استقرار المجتمعات
ذلكم هو عنوان مؤتمر الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، الذي عقد في القاهرة في 17-19 من الشهر الجاري، برعاية الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي وتنظيم دار الإفتاء المصرية.
وقد كان مؤتمراً عالمياً في مشاركيه، وعلمياً في مواضيعه، ومنهجياً في أطروحاته، وبناءً في مناقشاته ومداخلاته، وقد كان الحاضرون المتخصصون في الإفتاء والفكر الإسلامي على كلمة سواء في رؤيتهم لخطر الإفتاء المتطرف، الذي يتخذ من شواذ الأقوال منهجاً لإثارة الفوضى في ربوع البلدان، دليل ذلك الواقع العملي الذي نتج من فتاوى الطائشين، ومن ليسوا من الإفتاء في سبيل، فكانت جنايتهم على الدين والمجتمعات كبيرة وخطيرة، ذاق ويلاتها شعوب المنطقة والعالم، وقد كان الجميع في عافية.
فمن ذا الذي يوقف ذلكم النزيف الدامي لشعوب المنطقة، ويعيد للإسلام وسطيته ورحمته وشموله غير أولي الرشاد والسداد من العلماء الربانيين الذين غُذوا بسماحة الإسلام وأخلاقه العظيمة ومصادره المنيرة.
إن ذلك هو واجبهم الذي تُعلق عليه الآمال وتنشده الشعوب، وقد اجتمعت رؤاهم في هذا المؤتمر على توصيات وقرارات من الأهمية بمكان لو أنها فُعِّلت - وسيكون إن شاء الله تعالى - من خلال منسوبي الأمانة العامة للإفتاء في العالم الإسلامي وغيره.
إن الإفتاء مطلب كل مسلم حيث يرجع إلى علمائه المهديين الذين يُبيِّنون شرع الله كما شرع، وليس برؤى النظريات الحزبية أو الأفكار الواردة ذات الأيديولوجيات المنغلقة أو المشبوهة، وعندئذ يجد المسلمون السعة والرحمة والمرونة والمحبة والخير الكثير، فيحبون الله ويحبون خلقه وأرضه وسماءه، ويتعايشون مع الكل بهذه المحبة التي تعمر الأوطان وتبني الإنسان، ويجعلون هدفهم الأسمى هو نيل رضوان الله الذي وُعِد به المتقون.
وبعيداً عن نظرياتٍ تقابلُ نظريات الغلو، وهي نظرية الانفتاح غير المنضبط أو التي تتحرر من المرجعية الشرعية، فإن هذا النوع من المفتين هم كالأطباء الذين لا غنى عنهم، فهم أطباء القلوب ومنيرو طريق الرضوان الذين أخذ الله عليهم العهد بالبيان، وحرم عليهم الكتمان، ولذلك أمر الله تعالى من لا يعلم من عباده أن يرجع إليهم ليكون له عند الله حجة وبرهان.
إن ما يشين غلوَّ الإفتاء من غير المتخصصين لا يحمل تبعاته أهلُ الاعتدال وأهلُ العلم الشرعي واللَّدنِّي وآخذيه بسلاسله الذهبية إلى خير البشرية، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، فمنهج القرآن يقول: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾. ويقول: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾، فالإفتاء جزءٌ من ركائز التعليم الشرعي، وهو من مسؤوليات ولي الأمر ليضعه في يد أهله المتخصصين، كما يجعل القضاء في أيدي أمناء العدالة، ولعل الإفتاء أهم وأكبر؛ لأنه يتعلق بالأمور العامة والخاصة، ولا ينفك أحد من المجتمع عن الانتفاع به أو التضرر منه، بخلاف القضاء الذي أغلبه وقائع خاصة لا تتعدى الخصوم.
والمهمة الجُلَّى في الحقيقة منوطة بجمهور المستفتين؛ فإنهم قد يكونون سبباً مباشراً في اتباع من ليس له صفة الإفتاء، حيث يعتمدون ويؤيدون ويباركون وينشرون ويصفقون ويهللون لأولئك، وقد أمر الناس بالتحري في أمر دينهم فلا يأخذونه إلا ممن يوثق به كما ورد في الأثر: «إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم». والله تعالى لم يأمر الناس بالرجوع إلى كل من يعرفون، بل إلى من عرف بالعلم، ولا يعرفهم إلا المتخصصون تخصصاً دقيقاً، لذلك كان المفتون لا يفتون حتى يشهد لهم أشياخهم بأهليتهم للفتوى والإفادة، فلو أن الناس اتبعوا هذا المنهج لم يتصدر للإفتاء كل مفلِّس، ولبقي الشرع الشريف مصوناً عن تحريف الغالين وانتحال المبطلين.
لذلك كانت اللّائمة على جمهور السائلين الذين ظنوا كل بيضاء شحمة وكل حمراء لحمة، وكان عليهم أن يتبينوا حتى لا يقطعوا أعناق مدعي الإفتاء بتزكيتهم، فقد نهي المسلمون عن ذلك.
وبالله التوفيق
«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»