رحمة الشريعة
الشريعة الإسلامية التي جاء بها رسول السلام، سيدنا محمد صلى الله وسلم وبارك عليه، هي شريعة رحمة وهداية ونور ورعاية، عبّر عنها من شرعها وبعث بها سيد خلقه بقوله سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}، بأسلوب الحصر والقصر اللذين هما أبلغ صيغ البلاغة العربية، فهو قصر موصوف على صفة، وانحصار الموصوف، صلى الله عليه وسلم، بهذه الصفة وهي الرحمة، فكانت الرسالة رحمة في تشريعها وهديها وهدايتها لا تخرج عن ذلك قيد أنملة.
وقد عبر النبي، صلى الله عليه وسلم، عن ذلك بقوله: «يا أيها الناس إنما أنا رحمة مهداة»، وقوله عليه الصلاة والسلام: «وإنما بُعثت رحمة».
فكان شرعه كله رحمة، سواء في أسلوب الدعوة أو وضع العقائد أو تشريع العبادات أو المعاملات أو الحدود أو السلم أو الحرب، في تفصيل يطول ذكره ولا ينتهي حصره.
فكانت دعوته رحمة؛ لأنها جاءت لتخليص الناس من عبادة الأوثان والأصنام والأهواء، لعبادة المعبود بحق سبحانه وتعالى، وهو الله جل ذكره، الخالق الرازق المحيي المميت الضار النافع، كما تعاقبت على ذلك الرسل وجاءت به الشرائع السابقة.
فكانت دعوته على بصيرة ونور وهداية، ولين وتلطف.
وكذلكم كانت العقائد لم يكن فيها ما تعيا العقول بفهمه، بل إيمان بالله الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، فهو إقرار بكلمة التوحيد، وهي الشهادتان من غير بحث عن كنه الذات أو جوهر الصفات، ومن غير خوض في المتشابهات مما لا يدركه العقل البشري القاصر، وإيمان بما أخبر به من غيبيات بملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وجنته وناره وبقضائه وقدره، فكان إيماناً بسيطاً لا تحتار فيه العقول، ولا تكلف تأويلات النقول.
وكذلكم كانت العبادات التي افترضها الله على عباده ليتقربوا بها إليه، وتعظم صلتهم به، جعلها قليلة العدد سهلة الأداء، محبوبة للنفوس نافعة للأبدان مريحة للإنسان، وجعل أداءها بوسع الإنسان من غير تكليف فوق الطاقة، ولا إهمال بحق المعبود سبحانه، وجعل مناط تكليفها العقل.
وأما المعاملات فقد كانت لمصلحة الإنسان، فما من مصلحة يحتاجها الإنسان إلا جاء الشرع بما تقتضيه مصلحته؛ فأحلّ البيع وحرّم الربا وندب إلى الكسب والزراعة، وحرم الإضرار بالغير بأكل ماله أو استغلال حاجته، أو غير ذلك مما يتنافى مع مصلحة الناس فرادى وجماعات.
وأما الحدود الشرعية فقد كانت لحماية الإنسان وعقله وعرضه وماله، حتى يبقى الإنسان عزيزاً في نفسه، كريماً في مجتمعه، وبذلك يعيش المجتمع كله مرحوماً آمناً مطمئناً.
ومع كونه قد حدّ حدوداً لحماية نوع الإنسان وكامل المجتمع؛ فإن كل تلك الحدود قد لبست غشاء الرحمة، فلم يجعل القصاص في العمد فريضة حتمية، بل ندب فيه إلى العفو احتساباً، أو بدفع دية، أما الخطأ فلم يشرع فيه غير الدية جبراً للموتورين بفقد قريبهم، والكفارة لحق الله، جل ذكره، مع عدم المؤاخذة الأخروية.
ولم يجعل حد السرقة في كل قليل أو كثير، بل بنصاب محدد مع خلو شبهة أو حال ضرورة.
ولم يجعل حد الزنا بمجرد ادعاء، بل ندب إلى الستر فيه، وحرم الرمي به أو الإشاعة فيه، ولم يجعل إثباته إلا بشهود أربعة؛ بحالة يستحيل معها الثبوت عادة، أو بمحض الإقرار الخالي عن شبهة أو تهمة، ومع ذلك فتح باب التراجع فيه ما أمكن، حتى في ساحة إقامة الحد.
وكثير من الجرائم المنكرة، كشهادة الزور والكذب والاختلاس والغيبة والنميمة وغيرها، لم يجعل لها حداً مقرراً، بل جعل جزاءها أخروياً، ليكون للعبد فرصة التوبة الصادقة التي تمحو الإساءة، أو التعزير اللائق الذي يحقق المصلحة بحسب نظر ولي الأمر، بما يحقق الأمن المجتمعي والتعايش السعيد بين العباد.
هذه هي رحمة الإسلام الواسعة التي وازنت بين حق الفرد وحق المجتمع، والتي لا يوجد لها نظير في الشرائع السماوية أو الوضعية، فما للمنكرين لا يفقهون حديثا؟!
«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .