5 دقائق
الحياة الرقمية.. عالم بلا روح
شدّ هذا المشهد انتباهي واستغرابي: فتاة جلست أمامي في أحد المقاهي وانهمكت في تصوير طعامها حتى برد الأكل. عادت بالصحن إلى النادل وطلبت منه إعادة تسخينه. وبمجرد عودة الصحن إلى طاولتها أخذت تصوّره مراراً وتكراراً إلى درجة أني تناولت قهوتي وقرأت صفحتين من هذه الصحيفة، وهي لم تنتهِ بعد من التصوير.
لماذا كل هذا الحرص على تصوير منظر ليس له أي أهمية؟ فهي ليست على قمة إفرست أو بجانب دب قطبي أو أسد في سفاري! هو كله كرواسون وكابتشينو! وليس لوحة لدافنشي أو فان غوخ! فهل يستحق 20 دقيقة تصوير!!
ثم تذكرت (سناب شات.. إنستغرام.. تويتر.. فيس بوك.. لايك.. متابعين..) إنها لحظة توثيق تناول الطعام التي أصبحت سمة بارزة لهذا العصر، وهي أهم خبر عند متابعي تلك الفتاة. سيطرت علينا التقنية بشكل لم يسبق له مثيل، الكل مطأطئ الرأس في الهاتف الذكي يقرأ أو يوثق «طعامه» أو يسمع موسيقاه أو ينتقل بين منصات التواصل الاجتماعي للتفاعل مع متابعيه. أعلم أني لم آتِ بجديد حتى هذه الكلمة، لكن إليكم التالي:
الآن بدأ العالم يميل مجدداً للعودة إلى الحياة الحسية، والشواهد كثيرة، ففي عالم الألعاب بدأت تظهر ألعاب الثمانينات والتسعينات بحلة جديدة تجمع بين الحسي والرقمي (نينتيندو وفاميلي وأتاري)، وفي عالم النشر ارتفعت مبيعات الكتب الورقية وتراجعت الكتب الإلكترونية.
الكتب المطبوعة تتمتع بعوامل جاذبية خاصة، فهي تفوح رائحة حبر عند فتحها، والرائحة تدل على أنها جديدة، فيستمتع القارئ بها أكثر، وصوت قلب الصفحة بمثابة مقدمة لمفاجأة أو معلومة جديدة قد تحملها الصفحة التالية. وعندما يكون الكتاب مستعملاً جداً فتلك علامة على شعبيته ومزيد من التشجيع للخوض فيه. والكتب المطبوعة أيضاً ممكن أن تحمل توقيع المؤلف، وهذه علامة اقتناء لا مثيل لها، كما تنظم المعارض الكبرى من أجلها، وإضافة إلى ذلك، من الممكن إهداؤها للأحباء.
وفي عالم الموسيقى شهدت مبيعات الموسيقى بصيغة Vinyl (الأسطوانة السوداء الكبيرة) ارتفاعاً قياسياً، ولي صديق يجمع تلك الأسطوانات، وبشهادته قال: «الأسطوانة السوداء أوضح بكثير من أي صيغة أخرى، هي الأنقى على الإطلاق».
وفي مجال التصوير عادت الموديلات الجديدة الرقمية من كاميرا البولارويد الكلاسيكية بسبب ميزة عجزت عنها التقنية الحديثة، وهي إمكانية طباعة الصورة من الكاميرا بعد التقاطها مباشرة. في الحقيقة التصوير بالهواتف الذكية أسهم في دفن اللحظة بدل ترسيخها، لأن الصور تظل سجينة الشاشة ولا تعلق على الجدران أو توضع على الأرفف أو في ألبوم صور لتبقى راسخة.
وحتى في عز عالم التقنية فإن الكثير جداً من الناس تفضل عناء الذهاب إلى المحل لشراء هاتف ذكي بسبب ميزة لمس الجهاز وتجربته.
ختاماً: نحن مخلوقات حسية عاطفية شكلت حاسة اللمس جزءاً من تنشئتنا وتعليمنا وإدراكنا بما حولنا، مهما اندمجنا في عالم التقنية والآلات عديم الروح، عالم لمس البلاستيك المؤطر بمعدن، إلا أن اشتياقنا للعالم الحسي الحقيقي سيبقى كامناً قوياً مؤثراً في داخلنا، والدليل كل تلك الشواهد أننا نحاول العودة إلى العالم الحقيقي الذي عاد ليبقى.
Abdulla.AlQamzi@emaratalyoum.com
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .