ماذا خسرنا في عصر التكنولوجيا؟
لن أقول إننا خسرنا علاقاتنا الإنسانية، وتواصلنا الاجتماعي، وغير ذلك من كلمات مُكررة، بل سأدخل إلى صلب الموضوع وأقول إن هناك ثلاثة متغيرات بسبب الإعلام الرقمي، صارت لها تأثيرات هائلة في حياتنا: المتغير الأول هو «الأيديولوجيا»، ورغم أنني لا أحب هذه الكلمات الكبيرة، لكنني مضطر لاستخدامها هنا، للتعبير عن القيم والمنظومة الفكرية التي يتحلى بها الإنسان، والتي يستقيها غالباً من الرموز الفكرية في حياته، بدءاً من بيته إلى الفصول الدراسية وانتهاءً بالإعلام. إلا أن الإعلام الرقمي و«السوشيال ميديا» ألغيا الرموز الفكرية داخل البيت والفصل، وصنعا رموزاً جديدة قد لا تحمل أي ثقافة أو معرفة أو قيم، لكنها أصبحت الأكثر تأثيراً في المجتمع، لتصنع آراءه وأفكاره وقيمه - أيديولوجيته - وهنا تكمن المشكلة!
المتغير الثاني هو «الإلهام». اسأل نفسك: لماذا كلما واجهت مشكلة أو تحدياً في حياتك، انزويت بنفسك وأطْرَقْتَ تفكيرك في السماء، أو خرجت تمشي في الشارع، أو ركبت سيارتك، أو جلست تشرب فنجان قهوة؟ يقول الدكتور إيرل ميلر - من جامعة MIT - إن الإبداع، أو الإلهام، يأتي من خلال تركيز طويل للإنسان في فكرة ما، حتى يغوص في تفاصيلها ويتشعب.. وهذا ما تحاول القيام به عندما تخرج للمشي وحيداً؛ تسعى للتركيز في فكرة وتحاول تطويرها. كم مرة استطعتَ فعل ذلك وأنت تنتقل بين «يوتيوب وفيس بوك وتويتر وسناب شات وإنستغرام وواتساب»؟ صعب جداً لأنها وسائل تشتت التركيز.
المتغير الثالث هو «السعادة». أظن أن الموقف التالي قد حصل لك مراراً: تذهب إلى مكان جميل في إجازة أعددتَ لها منذ أشهر، فتجلس أمام بحيرة، أو في مقهى رائع، وتفتحُ هاتفك لترى أصدقاءك - الذين لم يحصلوا على فرصة مشابهة - جالسين في العمل يضحكون ويُصوّرون بعضهم، فتقول في نفسك «ليتني كنتُ معهم» وفي الوقت نفسه، يقول أحدهم وهو يُشاهد صورك وفيديوهاتك في ذلك المقهى «ليتني كنتُ مكانه»! تكرار هذا الموقف بشكل يومي، وإبحارنا في حياة الآخرين عبر الهاتف لنتعرف إلى مجوهراتهم وسياراتهم والمطاعم الراقية التي يتعشون فيها، والفعاليات التي يحضرونها مع عِلْية القوم، كل ذلك يجعلنا نشعر برغبة دائمة في تبديل أماكننا وظروفنا مع الآخرين، فنصاب بالأسى على أحوالنا، ومع مرور الأيام يمزقنا الإحباط ويبلعنا الاكتئاب.
رغم أننا نعيش في أكثر المراحل التاريخية وفرة في الثروات، وارتفاعاً في مستوى الصحة، وازدياداً في الرفاهية الاجتماعية، فإنها في الوقت نفسه، ويا للمفارقة، إحدى أكثر مراحل التاريخ التي ينتشر فيها مرض الاكتئاب! تقول إحصاءات منظمة الصحة العالمية إن الانتحار هو السبب الثاني للوفاة عند الشباب الذين تراوح أعمارهم بين 15 و29 عاماً. هؤلاء الذين تتوافر لهم وسائل ترفيه لم تخطر على بال بشر قبلهم، ولم يعيشوا كوارث إنسانية كالحربين العالميّتين، ولا «مجاعة ديكان» التي حلّت بالهند بين عامي 1630 و1632، وراح ضحيتها مليونا إنسان على أقل تقدير. ولم يروا «الموت الأسود» أو الطاعون الذي أصاب أوروبا في القرن الرابع عشر، وقتل 50 مليون إنسان، أو 60% من سكان أوروبا. لم يمروا بأيٍّ من تلك الأهوال، إلا أنهم أكثر اكتئاباً من الذين عاشوا تلك الأوقات المرعبة!
هل نترك الإعلام الرقمي و«السوشيال ميديا»؟ سيتساءل بعضكم الآن، والجواب هو: «لا»، فلا يمكننا أن نقاوم الواقع، بل نحتاج للتعامل معه بأدواته. ولن أقول لكم استخدموها باعتدال، فحتى أنا لا أفعل ذلك. لا تطلبوا منّي حلّا، ولكن توقّفوا مع أنفسكم قليلاً، وفكّروا في كل ما خسرناه في عصر التكنولوجيا.
yasser.hareb@gmail.com
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .