داء التطرّف وعلاجه

لقد كان التطرف ولايزال هو الداء العُضال للأمم والشعوب والديانات المختلفة، وهو ناشئ عن انحراف في السلوك الإنساني، حيث ينزع المتطرف إلى العدوان لإعجابه بنفسه واحتقاره غيره وعدم الإنصاف من نفسه، ومثل هذا السلوك يقتضي أن تكون له معالجة شمولية من قِبل أهل الحل والعقد في المجتمعات التي يظهر فيها هذا الداء.

لقد أرَّق التطرف العالم أجمع، فإنه بالاستناد إلى معظم الدراسات المتخصصة في هذا المجال، خصوصاً تقارير اللجنة الخاصة بمكافحة الإرهاب التابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة منذ نشأتها في 18 ديسمبر 1972، فإنها تفيد بأنه خلال الفترة من 1960 يوجد في العالم نحو 2500 تنظيم متطرف فكرياً ودينياً، و390 تنظيماً إرهابياً في 60 دولة، فأوروبا وحدها تحتوي 116 منظمة إرهابية، وفي عام 1995 فقط وقعت عمليات إرهابية في 91 دولة من العالم، كما وقعت عمليات إرهابية عام 2015 في 72 دولة من العالم، إضافة إلى انتشار شبكات دعم الإرهاب على ساحات دول مختلفة، وارتباطها بتجارة السلاح والمخدرات وجماعة الجريمة المنظمة، وهناك 40 دولة تستضيف عناصر إرهابية، كما تقول التقارير.

ولا يمثل العالم الإسلامي من هذا العدد الهائل إلا نسبة بسيطة، لا تتجاوز 8%، إلا أن العالم يتناسى القدر الأكبر من التطرف العالمي ليرى بمجهر النقد والإساءة النسبة البسيطة في العالم الإسلامي، ولعلنا نلوم عالمنا الإسلامي، حيث تعامى عن هذه النسبة البسيطة ليجد الآخر الفرصة لأن يقول ما قال إن صدقاً وإن كذباً، فكان ذلك ذريعة وتبريراً لهم، وكما قال المتنبي أو غيره:

وعين الرضا عن كل عيب كليلة

                                ولكن عين السخط تبدي المساويا

وقد تنوع هذا التطرف فكرياً وطائفياً وسياسياً وشعوبياً، وأخذ كل منه شكله المقيت في إقصاء الآخر وأذيته بما يستطيع فعله.

ولعل تشخيص داء التطرف يُعين على إيجاد الدواء الناجع إن شاء الله تعالى.

ومن أبرز تشخيصاته:

أولاً: ضيق العطن أو الأفق الذي يكون عليه المتطرف، إذ لا يرى الحق إلا من زاوية ضيقة، فحجبت عنه الحق الأبلج، والرؤى الكثيرة السمحة.

ثانياً: التربية النفسية التي ينشأ عليها المرء في بيئات ضيقة الفكر أنانية الرؤية، فيكون حاله كما قال القائل:

أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلبي خالياً فتمكّنا

ثالثاً: العوامل السلبية التي قد يتلقاها المتطرف من مجتمعه أو متعامليه، فيلجأ إلى السلوك العدواني تشفياً وانتقاماً.

وإذا صدقت هذا التشخيص، فإنه ينحي باللائمة على من عمله، إذ كان بالإمكان تفاديه حتى لا يصنع متطرفين.

أما علاج الأول: فإنه قد يكون صعباً؛ لأن ضيق العطن ينشأ من حماقة الفكر، والحماقة داء عضال، كما يروى عن عيسى عليه السلام قوله: «عالجت الأكمه والأبرص فأبرأتهما، وعالجت الأحمق فأعياني»، وكما قال الشاعر:

لكل داءٍ دواءٌ يُستطَبُّ به ... إلا الحماقة أعيت من يداويها

ولعل أنجع دواء لهذا النوع هو إدخال مهابة الله في قلبه بتخويفه من العقاب الإلهي إن هو حمل هذا الفكر وخرج به على الناس ليفتنهم فيه أو يؤذيهم به، وهذا يحتاج إلى علم تقي وناطق ذكي.

أما الثاني: فإنها قريبة النوال؛ لأن التربية النفسية تكون في الصغر أولاً وتصحب إلى الكبر، وهي مسؤولية الأسرة والمدرسة والمجتمع؛ فعلى كلٍّ من أولئك أن يقوم بواجبه نحو ناشئته، وإذا كانت الأسرة أو المدرسة فاقدة لأسلوب التربية هذه فإن اللائمة تكون عليهم كبيرة، وهم الذين يتحملون وزر هذا التطرف في المقام الأول.

وأما الثالث: فعلاجه سهل نظرياً، إلا أنه قد يكون صعباً تطبيقاً، فالنظر يقول إن العدالة الاجتماعية هي الكفيلة بتلافي هذا النوع من التطرف، ولكن يبقى النظر في كيفية حصولها، والواقع أن غياب هذا النوع من العلاج أوقع النسبة الكبرى من الناس في التطرف المقيت، ولذلك لما سادت العدالة الاجتماعية دولة الإمارات خاصة وبعض الدول عامة اختفى من قاموسها هذه الظاهرة.

«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

الأكثر مشاركة