العملات الرقمية والأخطار المحدقة
ستظل العملات الرقمية - التي هي حديث الساعة وشغل الناس الشاغل - ستظل بين مد وجزر حتى يحصحص الحق فيها، ولعله بعد أمد طويل، ويبقى دور معرفة الحكم الشرعي بشأنها حائراً بين مانع ومبيح، إلا أن كفة المنع هي التي ينبغي أن ترجح ــ على الأقل حتى يتضح وضعها ــ وذلك لأسباب كثيرة، أهمها:
1- المخاطرة بالمال على أمل الربح السريع المُريع، وقد تكون الخسارة الماحقة، كما كان ويكون مثل ذلك في الأنشطة الإغرائية، فغالباً ما تكون سراباً بقِيعة، وفي ذلك محذور شرعي بإضاعة المال الذي يفيء الله تعالى به على عباده لينتفعوا به في معاشهم ومعادهم، وهو ما نهت عنه الشريعة الإسلامية، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «إن الله حرم عليكم: عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعا وهات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال»، وفي الذكر الحكيم يقول الحق سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}.
2- الاستثمار في شيء لا تُعرف حقيقته وماهيته، بل في حسابات رقمية فلكية مشفرة، لا يتقن الدخول فيها إلا عمالقة المعرفة الإلكترونية والمعرفة الرقمية والخوارزميات المعقدة، وليس في شركة إنتاج نافع أو بيع وشراء عملات رسمية ذات ضمان قانوني أو نحو ذلك مما ينتفع به وله أصل يركن إليه، ولعل ذلك الاستثمار مرتبط بالمافيات الإجرامية، بدليل أنه لم يتبنَّ أي بنك مركزي هذه العملة (البيتكوين)، بل جُلُّها يحذر وينذر من الدخول فيها، تحت طائلة المسؤولية القانونية.
3- مخالفة الأنظمة والقوانين الصادرة من أكثر الدول التي منعت تداول «البيتكوين»، وجعلت ذلك من غسيل الأموال المجرّم دولياً.
فكيف ينبغي مع كل ذلك لعاقل المخاطرة بحاله وماله بدليل هذا التهاوي المخيف لهذا المنتج الرقمي (البيتكوين) خلال فترة وجيزة، ما يعني أن من غامر في التعامل به فقد خسر جُل ماله فيها.
وقد أحسنت الدولة صُنعاً بالتحذير الصادر عن هيئة الأوراق المالية والسلع، للمستثمرينَ كافة، من أنشطة جمع الأموال القائمة على الاستثمار في الأصول الرقمية المشفرة (مثل العملات والأدوات الرمزية)، التي قد تجري مزاولتها بشكل أو بآخر داخل دولة الإمارات، سواء تمت الإشارة إلى هذه الأنشطة بـ«الإصدارات الأولية للعملات أو الإصدارات الأولية للأدوات الرمزية».
وذكر التحذير أن بعض هذه المنتجات لا تخضع لأي جهة تنظيمية أو رقابية، ومن ثم تكون عرضة لخطر الغش والتحايل.
قد تكون مُصْدَرَة من جهات تعمل خارج الدولة، وتخضع لقوانين وأنظمة أجنبية لا يمكن التحقق منها، وربما يكون من الصعب للغاية - من الناحية العملية - تتبع الأموال المستثمرة أو استردادها في حالة تعثر أو فشل إصدار الأداة الرقمية.
وبيّن أن تداول هذه الإصدارات والأدوات في الأسواق الثانوية عرضة لأسلوب تسعير غير واضح ومتقلب، ولا يتمتع بالسيولة الكافية.
وأن من المحتمل ألا يتمكن العديد من المستثمرين - خصوصاً المستثمرين الأفراد - من فهم المخاطر والكلفة والعائدات المتوقعة، الناشئة عن استثمارهم في هذه الأدوات.. الخ ما ذكره التحذير المهم.
وبهذا التحذير الرسمي تكون الدولة قد أبرأت ذمتها أمام الجمهور، الذي كان يترقب تصريحاً يطمئنه عن هذه التعاملات، لثقته الكبيرة برعاية الدولة لمصالحه.
نعم، إن الدولة لم تحارب الرقميات بعمومها، لأن مستقبل الاقتصاد الرقمي واعد بالكثير من التطور، ولكن بطريقة منظمة واعتمادات دولية، وليس بإنشاء أفراد لشبكات يتم من خلالها التعامل الرقمي خارج المنظومة الدولية، وعدم الأصول الذاتية لتكوين العملات.
وينبغي العلم بأن كثيراً من هيئات الفتوى الشرعية في البلاد الإسلامية قد حرّمت التعامل بـ«البيتكوين»، لدلائل متكاثرة ساقتها، ولعل المتصفح للشبكات يجد ذلك، إلا أننا في دائرة الشؤون الإسلامية نرجئ الجزم بذلك لمزيد البحث والتحقيق، الذي سيكون، إن شاء الله تعالى، في منتدى فقه الاقتصاد الإسلامي الرابع في شهر أبريل المقبل، حتى يكون البحث في هذه المستجدة قد أخذ حقه من التمحيص.
«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .