لأول مرّة أنتصر
لم أقرأ خبراً، بل عشت القصة بكامل تفاصيلها وفواصل وجعها وشواخص حرمانها، رأيتها تنبعث من ورق الجرائد وتقف أمامي بكامل طفولتها المسلوبة لتقول لي كم مرة مررت بجانبكم ولم تلتفتوا إليّ، ولم تسمعوا صهيل روحي الطفولية البرية، كم مرة أغلقتم نوافذ سياراتكم عندما اقتربت أعرض عليكم مناديلي، ولم تلفت انتباهكم أقدامي الحافية وهي تدوس الإسفلت الخشن.
«مروة الصعيدية» بائعة المناديل.. حافية القدمين ليست وحيدة في ماراثون العيش. |
عن «مروة الصعيدية» أتحدث، يقول الخبر: إن الطفلة المصرية مروة التي دأبت على بيع المناديل في محطة أسوان في الصعيد، لفت انتباهها ماراثون مدرسي تنظمه إحدى الجمعيات الخيرية، راقبت مروة الصعيدية الطالبات وهنّ يتحضّرن لدخول السباق تمنّت لو كانت واحدة منهن، لو أن لديها حذاءً رياضياً أو لباساً يساعدها على الجري في السباق كبقية الطالبات المنعّمات.. سألت المنظمين أن يسمحوا لها بالمشاركة ولو تجاوزاً، وافقوا في مساهمة مجانية لإدخال الفرح، ولإطلاق عقال الطفولة من قيود الفقر والقهر، عند لحظة الانطلاق ركضت مروة حافية القدمين بجلّابيتها الصعيدية وحجابها بين المتسابقات، لم تكن ترتدي حذاءً أصلاً، فالفقر لا يمنحها كل هذا الترف حتى تحمي قدميها بنعلٍ رخيص.. ركضت مروة كأنها تعانق الحياة من جديد، ركضت بثوبها الطويل ورجليها الحافيتين مسافات الماراثون الطويلة ابتسمت وهي تركض لا فرحاً بالتفوق بل فرحاً بالحياة.. فازت مروة بالمركز الأول رغم أنها طارئة على التنظيم والسباق، كانت الصورة التي التقطتها عدسة الصحافة لها تطفح بالفرح والسعادة والشعور بالذات، وكأنها تقول بنفسها من قال إني منكسرة، ها أنا أنتصر، ولأول مرة أنتصر، فقط امنحوني الفرصة لأحبّ الحياة.
الصورة وحدها حكاية، تباً للفقر الذي يختطف الطفولة، تباً للفقر الذي يسحب خيط الحياة الذهبي من أعمار الصغار، تبّاً لرغيف الخبز الذي انحنت لأجله الشعوب طويلاً. «مروة الصعيدية» بائعة المناديل.. حافية القدمين ليست وحيدة في ماراثون العيش، مروة الصعيدية حالة.. كل يوم يقف أمام نافذتنا طفل يتأمل دفء المركبة أو لونها، ويتأمل الألعاب المحنطة خلف زجاج الثراء، يتأمل دببة القطن التي تنعم بالدلال في محال الهدايا أكثر منه بكثير.. يتأمّل، يحلم، يتنهّد، يحمل بضاعته ويغادر.
ahmedalzoubi@hotmail.com
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .