5 دقائق
طلب الحلال وصناعة الحلال
سيظل طلب الحلال بغية المسلمين الذين يبلغون نحو 23% من بني الإنسان، لأن الإسلام تعبدهم به كسباً وأكلاً وشرباً وتداوياً ولبساً وبيعاً وشراءً وغير ذلك، لما فيه من خيري الدنيا والآخرة.
أما الدنيا فبطيب العيش وسعادة الحياة، وطيب القلب وطهارته، وصلاحه لتلقي الهداية الربانية، والأنوار الإلهية، والاستقامة على الطريقة المرضية، وقبول دعائه.
وأما الآخرة فبرضوان الله تعالى على التزام طاعته وشرعه، وإطعامه وإكسائه من ملذات الجنة ونعيمها، مما لا مقارنة له بملذات الدنيا، كما وردت به الآيات، وصحت به الأخبار.
وقد توالت الأوامر الإلهية للناس أجمعين بلزوم الأكل من الطيبات، واجتناب الخبائث والمحرمات، ولأهمية أمر الحلال وسعته، وكونه الأصل في الأشياء، حدد الله تعالى ما حرمه على عباده من الناس أجمعين، فنص على تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبُع وما أُهل لغير الله به، وما ذبح على غير اسمه، والخبائث والمسكرات بعمومها، ونصت السنة على تحريم المخدرات، وكل ذي ناب من السباع أو مخلب من الطير، وما يدخل قياساً أو تخريجاً في مفهوم ما نُص على حرمته، فحُددت المحرمات لتبقى دائرة الحلال واسعة، حتى تجتنب المحرمات بأصلها أو بوصفها، إلا ما يكون في حال اضطرار لبقاء مهجة الحياة، أو دفع ضرر لا يحتمل.
ومن أجل هذه السعة أباح الله تعالى طعام أهل الكتاب، لكونهم متعبدين بالحلال واجتناب الحرام، وملتزمين بذلك تذكية واتباعاً لأنواع ما أحل الله لهم، واجتناباً لما حرمه عليهم.
فلو أن هذه الصناعة دخلت دائرة الحلال الواسعة لزاد كسبها وخيرها ونفعها، وكان الناس في عافية، وصُنَّاعها في غنى طائل، فإن المؤشرات العالمية لهذه الصناعة أفادت بأن صناعة الحلال من أكبر أنواع الاقتصاد الإسلامي انتشاراً وربحية، حيث بلغ الآن نحو ثلاثة ترليونات دولار أميركي، غير أن جشع النفوس، وعدم الالتزام بشرائع الله تعالى، جعلا الصناعة تخرج عن السيطرة، لتنفلت من قيود التشريع إلى هلع التصنيع وهوس التسريع، فجعلت من الصعق والوقذ والفرم حياً، وغير ذلك مما يؤدي إلى الموت السريع؛ جعلته وسيلة للكسب، وصنعت من المشتقات المحرمة أدوية وألبسة وأشربة وأدوات تجميل، حتى جعلت الناس عامة والمسلمين خاصة في حيرة من أمرهم في طعامهم وشرابهم ودوائهم.
ولاتزال جهود كثير من الدول والعلماء وبعض التجار والمؤسسات الإسلامية تُعنى عناية كبيرة بتنقية الحلال من الحرام، وتحقيق الكسب الطيب المبارك، ومن ذلك المنصة العالمية لصناعة الحلال، التي تنظمها هيئة المواصفات والمقاييس في الدولة، فقد أقامت المؤتمر الثالث بعنوان «صناعة الحلال بين الابتكار ومواكبة التكنولوجيا»، وبذلت جهوداً كبيرة في سن تشريعات وقوانين لضبط الرقابة على تذكية واستيراد اللحوم والدواجن، لأن التذكية هي الأهم في موضوع الحلال، حيث جاء الخلل الكبير منها، لما ظهر من تخلي كثير من أهل الكتاب، لاسيما النصارى الذين أحل الله لنا ذبائحهم، عن ضوابط الحل في دينهم، فجعلوا الكسب المادي الأساس في التصنيع والاتجار، من غير مبالاة بما هو حرام في دينهم بأصله أو بوسيلة موته، فكان لابد من كبح ذلكم الجماح المادي بتشريع يضبط استيراد منتجات الحلال، فالناس لا وسيلة لهم لتجنب الحرام إلا بما تضعه الهيئة والمؤسسات المماثلة من قواعد.
ولقد أجاد العلماء في مجامعهم وهيئاتهم بوضع إطار عام لما يمكن قبوله من تأثير الصناعة في الحلال، وما يجب رفضه، ولايزال البحث جارياً لديهم في ما يستجد، في ضوء تطور التقنية ووجود الحاجة، وعلى الهيئات والجمعيات والتجار أن يجعلوا تشريعاتهم نصب أعينهم، إن أرادوا كسب ثقة الناس والكسب الحلال الذي يباركه الله وينفع العباد، ولا يسعهم الاتكال على عموم حل طعام أهل الكتاب مع النصوص المخصصة لذلك العموم، وهي التي نُص فيها على تحريم الأشياء بأعيانها، فإن الخاص يقضي على العام اتفاقاً.
«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .