حلَّ عليكم شهرٌ كريم
حلَّ علينا شهر رمضان المبارك، بعد أن انتظرناه بفارغ الصبر وكامل التطلع، لأنه الشهر الذي يمنحنا الفرصة الكبيرة للعودة إلى الحياة التي نتمناها لنعيش بها سعداء مع ربنا سبحانه ومع أنفسنا ومع غيرنا؛ مع ربنا سبحانه بالإقبال عليه بنفس راضية، وعبادات صالحة، وتزكيات خُلُقية، ومع النفس بتهذيبها بالأخلاق الكريمة من سماحة وكرم وإيثار وصبر وصفح ورحمة ومحبة، ومع غيرنا بصفاء المودة وكامل المحبة، ونسيان الخلاف، وذهاب الشحناء والبغضاء، وبذلك يترقى المرء في مقامات الإيمان والإحسان، وهي المقامات التي يعيش بها في الدنيا حميداً وفي الآخرة سعيداً؛ فشهر يكون فيه مثل هذا الخير العميم حقه أن يُفرح بحلوله، ويتطلع إلى لقائه: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾، نفرح به لأن فيه الغنم الكبير، وفيه الربح الوفير، ولذلك كان النبي، صلى الله عليه وسلم، يبشر به أمته عند مقدمه، كما روى أبوهريرة رضي الله عنه أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: «أظلكم شهركم هذا، بمحلوف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما مر بالمسلمين شهر خير لهم منه، ولا مر بالمنافقين شهر شر لهم منه، بمحلوف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليَكتب أجرَه ونوافله قبل أن يدخله، ويكتب إصره وشقاءه قبل أن يدخله، وذلك أن المؤمن يُعد فيه القوة من النفقة للعبادة، ويعد فيه المنافق اتباع غفلات المؤمنين واتباع عوراتهم، فغنم يغنمه المؤمن»، فهو غنيمة حقيقية لا تزول بركتها ونفعها في الدنيا والآخرة لمن أراد أن يكسب الغنائم، بخلاف المغانم المادية التي تذهب أدراج الرياح في ساعة من نهار، ولن تكون هذه الغنيمة إلا لمن حرص عليها بالنية الصالحة لصيامه وقيامه إيماناً واحتساباً، تصديقاً بوعد الله في فيضه العميم وجوده الكريم، واحتساب ذلك عنده ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، وذلك هو معنى أن الله يكتب أجره قبل أن يدخل، حتى وإن قُدِّر على المرء أن لا يصومه لمرض ونحوه فإنه مع هذه النية ينال الأجر وعليه القضاء، حتى لا تفوته تزكية التقوى التي ينالها الصائمون، وهذا من بركات هذا الشهر الكريم، فمرحباً به ونعم المجيء جاء، إنه شهر التوبة إلى الله، وشهر المغفرة منه، وشهر القرآن الذي: ﴿يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً﴾، وشهر الجود والإحسان، وأيّاً ما تعددت فضائله وكثرت خصائصه، فإن الفضيلة العظمى فيه أنه الشهر الذي اختصه الله تعالى لنفسه، كما قال في الحديث القدسي: «كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به، ولخَلُوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك»، وذلك ليكون الجزاء عليه، منه سبحانه دون أن يكتبه ملَك أو يدخل تحت سُنَّة الحسنات الحسنة بعشر أمثالها، فجزاء يتولاه الله تعالى بنفسه - وهو الجواد الكريم ذو الطّوْل والإحسان - لعبده، وهو الفقير إليه، الضعيف بين يديه، جزاءٌ يكون بغير حساب، ولا يطمع فيه خصماؤه يوم القصاص من الحسنات والسيئات، فحقه أن يفرح به ويطرب لوصوله، وتشحن النفوس والقلوب لاستقباله بنية صالحة وعزم أكيد على أن يكون شهر التوبة إلى الله، لأنه الشهر الذي يحقق فيه الظفر بمغفرة الله، والشهر الذي يسعد فيه المغفور لهم، ويخزى فيه الذين ترغم أنوفهم، هذا هو شهر رمضان الذي حل علينا ضيفاً كبيراً، فتصوم فيه جوارحنا عن المُفطّرات الحسية والمعنوية، وتزكو فيه أخلاقنا، فلا تسُب ولا تصخب، شعارنا فيه في ليله ونهاره: «إني صائم إني صائم»، فنستذكر به المراقبة الدائمة لمن نصوم له، ومن نطمع في جوده ونواله، فقد وعدنا، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه، أن «من صامه إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه».
• فحقه أن تُشحن النفوس والقلوب لاستقباله بنية صالحة وعزم أكيد على أن يكون شهر التوبة إلى الله. |
فهنيئاً لكل من حل عليه هذا الشهر الكريم وهو ذو نية مبيَّتة بصيامه وقيامه والتسابق إلى خيراته، فينال ما أعده الله له فيه من دخول جنته من باب الريان.
«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه.