من أسرار الصوم
لم يمتحنا الله تعالى بالعبادات والتشريعات المختلفة ليتعبنا في التكاليف من غير أن يكون سر ذلك عائداً علينا بالنفع العميم والخير الجسيم، وكما قال بعضهم:
لم يمتحنَّا بما تعيا العقول به حرصا علينا فلم نرتب ولم نهمِ
«ولا ريب أن كل العبادات لها أسرار عظيمة بيَّنها الحق سبحانه صراحة أو إشارة». |
فصيام شهر مضان قد يكون شاقاً على النفس، لعدم وجود حظ لها فيه، ولما فيه من كبح لشهواتها المختلفة بطناً وفرجاً، ولما فيه من محاربة الشيطان الذي يجري من ابن آدم مجرى الدم من العروق، فيزداد إغواؤه مع التوسع في الشهوات والملذات، ويقل أو ينعدم إذا ضيقت مجاريه بالصوم، لذلك كان فرضه رحمة من الحق سبحانه بعباده، حتى يتزكوا به في مخالفة النفس وكبح شهواتها، ومحاربة الشيطان العدو المبين للإنسان، كما بيّن الله سبحانه سر تكليفهم به، بقوله:
﴿لعلكم تتقون﴾، أي لتنالوا بالصيام درجة التقوى، وهي المنقبة العظيمة التي من نالها فقد ظفر بسعادة الدارين، فهذا هو السر الأعظم الذي يتحقق بالصوم الحقيقي الذي يحبه الله تعالى ويحب فاعله.
ولا ريب أن كل العبادات لها أسرار عظيمة، بيَّنها الحق سبحانه صراحة أو إشارة، لكن لم يكن شيء من تلك العبادات يثمر التقوى مباشرة كالصوم، ولمَّا بين سبحانه ثمرة الصوم وسرَّه، حث العباد على أن يخوضوا مضمار التسابق لتحقيق هذا السر العظيم، فإنه لا يدرك إلا بمجاهدة كبيرة، يتحقق معها معنى الصوم حقيقة وحكماً، فليس مجرد الامتناع عن الطعام والشراب والنساء محققاً لهذا السر بحد ذاته، فإن ذلك هو المظهر الخارجي للصوم، الذي يتحقق به أداء الواجب وإسقاط الفرض لمن كان عاجزاً عن الدخول في مضمار التنافس في الخيرات والمسارعة إلى الطاعات، أما من رام المقام الأعلى فعليه أن يتحقق بمعاني الصوم الظاهرة والباطنة «فيحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وليذكر الموت والبلاء»، ويتشبه بالملائكة الكرام في ترك الشهوات، وفي التبتل إلى الله تعالى من غير فتور عن الطاعات، ودوام المراقبة لله تعالى في سائر الأوقات، وهو الحال الذي كان عليه المصطفى، صلى الله عليه وسلم، فقد كان يبيّن حقيقة الصوم بقوله وفعله، فيقول: «الصوم جُنَّة ما لم يخرقه»، أي بفعل ما يتنافى مع حقيقة الصوم التي هي الإمساك عن كل ما حرم الله تعالى أو كرهه، ويقول: «والصيام جُنَّة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله، فليقل إني امرؤ صائم»، ويقول: «من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل، فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه»، كل ذلك ليحثنا على التحقق بمعنى الصوم، فلا يجرح بما لا يحقق سر المراقبة الدائمة لله تعالى، التي هي أعلى مقامات الإيمان، كما ورد في الحديث: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك»، وهو الحال الذي يكون عليه الصائم الحقيقي، ظاهراً وباطناً، سراً وعلناً، والحال الذي كان عليه النبي، صلى الله عليه وسلم، فإنه مع كونه أجود الناس، في السنة كلها؛ إلا أنه «كان في رمضان أجود ما يكون، وذلك حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة»، وهذا جانب من جوانب أسرار الصيام في الجود الذي هو صفة الله تعالى، فإنه كريم يحب الكريم، جواد يحب الجود، كما ورد، وفيه المسارعة إلى الخيرات التي يحبها الله تعالى بمختلف أنواعها، فكان يعتكف فيه لينقطع لعبادة الله تعالى، وليسُنَّ لأمته الاعتكاف الذي تصفو به النفوس، ويخلو فيه الفكر مع الحق سبحانه، وبذلك يتهذب ويترقى في مراتب التقوى.. فهذه معانٍ عظيمة في الصوم لمن أراد أن يحقق مبناه ومعناه، فلا يخرج منه إلا وقد كانت التقوى لباسه وزاده، وشعاره ودثاره.
نسأل الله تعالى أن يحقق فينا معاني الصيام والإحسان، وينزلنا منازل الصديقين في الجنان.
«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .