5 دقائق
طلب العلم من الصين
اشتُهر على ألسنة الناس حديث: «اطلبوا العلم ولو بالصين، فإن طلب العلم فريضة على كل مسلم»، قال عنه البيهقي في «شعب الإيمان»: هذا حديث متنه مشهور، وإسناده ضعيف، وقد رُوي من أوجه، كلها ضعيف. اهـ.
ومعنى كون إسناده ضعيفاً أنه لم يصح إسناداً عن النبي، صلى الله عليه وسلم، وإن روي من وجوه كثيرة لكن لا يخلو وجه منها من ضعف، ولا يلزم من الحكم على الحديث بالضعف أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقله، كما لا يلزم من الحكم عليه بالصحة أنه عليه الصلاة والسلام قاله، إذ لا يقطع بنسبة الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا للمتواتر، كما هي القاعدة عند المحدثين من غير خلاف؛ لأن الحكم بالصحة أو الحسن أو الضعف هو حكم باعتبار طرق الوصول إلينا، بحسب قواعد القبول والرد، التي وضعوها لنقد السنة سنداً ومتناً، لينبني على ذلك العمل والاحتجاج أو عدمه.
ومع القول بضعفه فقد اشتهر على الألسنة ككثير من الأحاديث المشتهرة التي منها الصحيح والضعيف والموضوع، كما بينها المحدثون وأفردوا لها كتباً خاصة كالتذكرة في الأحاديث المشتهرة للزكشي، والمقاصد الحسنة في الأحاديث المشتهرة على الألسنة للإمام السخاوي، وكشف الخفاء ومزيل الإلباس للعجلوني، والدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة للسيوطي، وغيرها كثير، وهي غير الشهرة لاصطلاحية التي معناها أن الحديث جاء من رواية ثلاثة فأكثر لكنه لم يصل إلى حد التواتر، غير أن لبعض تلك الأحاديث المشتهرة كحديث المقال - هذا - دلالة واقعية على ما في الصين مما يستفاد منه علماً وحضارة وصناعة وغير ذلك، فإن الصين بلد عظيم المساحة والسكان، ومتعدد الأعراق والقوميات والثقافات.
والكل يعمل لأجل الصين ويفخر بانتسابه لبلده، فتكوَّن من ذلك الاختلاف الثقافي مع التجانس العملي من أجل البلاد حضارة واحدة تعتبر اليوم أقوى الحضارات الناشئة، التي سيكون لها في القريب العاجل الصدارة في القوة الاقتصادية والعسكرية، ومن هنا يمكن الاستفادة من ذلكم الحديث المشهور لما لدى الصين من علوم ومعارف متطورة مكنتها من التفوق اقتصادياً وعسكرياً وفضائياً وزراعياً وبيئياً وسياسياً وغير ذلك، فالحكمة ضالة المؤمن فأنى وجدها فهو أحق بها، فعلى المسلمين عموماً والعرب خصوصاً أن ينتهزوا فرصة انفتاح الصين عليهم بما تقدمه من تسهيلات علمية، خصوصا في كبريات جامعاته كجامعة «ترايب Tribe» التي رأيتها على الشاشة، وكأنها مدينة مترامية الأطراف وفيها مئات الآلاف من الطلاب والطالبات، وتقدم المنح في التخصصات العلمية للمتفوقين، كل ذلك يقتضي من العرب خصوصاً والمسلمين عموماً أن يكون لهم توجه جدي نحو هذا الشعب الذي نفعه أكثر من ضرره، بعكس الشعوب الأخرى التي تأخذ الكثير ولا تعطي إلا النزر اليسير، لأن هدفها الأخذ وليس العطاء.
ولقد كان علماؤنا الأسبقون متنورين جداً حينما لم يفتهم ما في الصين من خيرات ثقافية وصناعية، فوصلوا إلى ديارهم ونوروهم بالإسلام، فدخل فيه أمم منهم، وتوجد الآن مقاطعات كبيرة كلها مسلمة، وفيها من النشاط الإسلامي المنفتح والوسطي ما مكّن المسلمين أن يعيشوا به مع مختلف الديانات بكامل حرياتهم الدينية والاجتماعية، كما رأينا نموذجاً من عددهم الهائل في جنازة الشيخ الداعية، دنغ قوان عبدالله، رحمه الله، الذي شيعه نحو 200 ألف مسلم، هذا في مدينة شينغ شمال غرب الصين.
وتشير الإحصاءات غير الرسمية - ولكنها أقرب إلى الحقيقة - إلى أن عدد المسلمين في الصين يزيد على 75 مليون مسلم، ويعيشون مع كل طوائف الصين بسلام ووئام، مع أنهم يعتبرون أقلية بجانب ما يزيد على المليار و300 مليون نسمة، ولايزالون ينشرون دينهم بحكمة ورحمة ومحبة، فيدخل الناس فيه رغباً لا رهباً، من غير إغراءات كما تفعل منظمات التبشير التي تجذب الناس إليها، وهم اليوم أحرص على تعلم لغتنا ومد أيديهم إلينا لتبادل المنافع مع قلة التكاليف، وقد اتجه كثير من التجار وأرباب الأموال إليها فوجدوا فيها من الخير ما لم يجدوه في غيرها، وهكذا هي الأيام دولة بين الناس، والحريص على نفع نفسه وبلده ينتهز الفرص الإيجابية ويعض عليها بالنواجذ.
• عدد المسلمين في الصين يزيد على 75 مليوناً، ويعيشون مع كل الطوائف بسلام ووئام.
«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه.