«وأتموا الحج والعمرة لله»
أتم الحجاجُ حجهم هذا اليوم، وقضوا تَفَثهم، ووفَّوا نذورهم، وختموا أركان الإسلام بحج بيت الله الحرام، والوقوف بتلك المشاعر العظام، فحُطَّت خطاياهم، ورجعوا مغفوراً لهم كيوم ولدتهم أمهاتهم، فهنيئاً لهم، وطوبى لهم، ونرجو لهم حسن مآب، وقد عشنا معهم بقلوبنا وأرواحنا نتابع خطاهم، ونلتمس بركات دعواتهم، ولعلنا لم نُحرم شيئاً مما أفاء الله عليهم من فضله، فقد كنا كما قال ذلكم الهائم بالحج:
يا راحلين إلى البيت العتيقِ لقد سرتم جسوما وسرنا نحن أرواحا
إنا أقمنا على عجزٍ وقد قدروا ومن أقام على عجزٍ كمن راحا
ولعلهم قد أدركوا معنى إتمام الحج والعمرة الذي أمر الله تعالى به مَن قصد بيته الحرام، من أنه إتمام كما أراد الله من فعل الأنساك التي فعلها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأمر أمته بأن تقتدي به فيها، بقوله: «خذوا عني مناسككم»، لأنه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم هو المبين عن ربه جل وعلا فيما يريده من عباده.
وأدركوا أن إتمام الحج يعني تمام أركان الإسلام، وهو مِنَّة من الله تعالى عليهم خاصة، فإن من المسلمين من تم إسلامه بالتصديق، لا بالفعل، حيث لم يستطيعوا أداءه، فعذرهم الله تعالى، وهؤلاء الحجاج أتموه إيماناً وعملاً، فكانوا ممن اختصهم الله تعالى بتلبية نداء إبراهيم عليه السلام، فهوت أفئدتهم وأجسادهم ملبَّين قاصدين وجهه الكريم، فكان إتمامهم لله تعالى لا لرياء ولا سمعة، وكان إتمامهم له بالأفعال، فأدوا الأركان، والواجبات والسنن، وبالإخلاص الذي عبّرت عنه تلبيتهم المتتالية، حتى بحَّت أصوات بعضهم، وأتموه بزكاء الأخلاق الذي تحلوا به من حين إحرامهم إلى حين تحللهم، فلم يصحب نسكهم رفث ولا فسوق ولا جدال، وكانوا على قدم الاستقامة في تحقيق معن الأخوة الإيمانية مع مختلف أطياف الحجاج من مختلف البلدان ومختلف اللغات، وكانوا في أحسن الأحوال في الإيثار والتراحم والكرم وغير ذلك من مكارم الأخلاق التي هي من أفضل الأعمال عند الله تعالى.
هكذا أتموا حجهم وقضوا تفثهم، وسيعودون إن شاء الله بحج مبرور وهم كما ولدتهم أمهاتهم نقاءً وصفاءً وفطرةً، وعليهم أن يستأنفوا العمل.
وبقي عليهم شيء واحد من تمام الحج، وهو استشعار ذلكم الحال الزاكي الذي كانوا عليه بقية حياتهم، كما ندبهم الله تعالى لذلك بقوله: «فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا»، فها هو ربهم الذي حجوا له سبحانه لم يكتف منهم بأداء النسك العظيم، بل أراد منهم أن لا ينسوه بعد تمام النعمة، لأن النسيان بعد المعرفة يعتبر جفاءً وإعراضاً ذميماً، فإن من ذاق لذة المناجاة وتبتل بحسن العبادة، عليه أن يظل على عهده الذي عاهد الله به، فقد قال: إنه مقيم على إجابة الله تعالى إقامة بعد إقامة، وكان ذلك وعداً مؤكداً، وعهداً عظيماً، فمن واجبه أن يفي به، ويستشعر مواقف المناجاة، ومواطن التجلي الإلهي الذي غمره في المشاعر وحول البيت العتيق، فإن هو نسي كل ذلك وعاد إلى سالف عهده، تقصيراً وتفريطاً؛ فإنه يكون من الغافلين، وليس ذلك شأن المقبولين، ولا منهج الصالحين.
إن إتمام الحج يعني ملازمة المنهج القويم الذي كنتَ عليه أيها الحاج الكريم، حتى تلقى ربك الرؤوف الرحيم، الذي لايزال دعاؤه لك بالإقبال متجدداً آناء الليل وأطراف النهار، فطالما قرع سمعك: حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح، وطالما سمعت نداءه لك بوصف الإيمان، وطالما ناداك بكلامه القديم الذي تتلوه بلسانك المبين؛ فيأمرك وينهاك ويعظك ويرغبك ويحذرك ويزهِّدك، ويذكرك بحال من مضى، وحال ما سيأتي عليك، فلا تغفل عن كل ذلك حتى لا تكون من الخاسرين، ولا تتوان عن الاستجابة لكل ما في وسعك تلبيته، لأنك قد عاهدت الله تعالى على الإقامة على الطاعة، وأتممت أداء النسك الذي هو خاتمة الأعمال، وبذلك تحقق معنى الرُّقي في العبودية لله تعالى التي تمثَّلتَها وأنت أشعث أغبر بطمرين، غير مرفَّه بزينة ولا طيب.
نسأل الله تعالى أن يحقق فينا جميعاً معاني العبودية له سبحانه، ويرقينا في مقاماتها الأزلية.
«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .