سريالي
«نولوم» أفقر رجل في العالم
«ما من خير أن يعيش المرء أشهراً وسنين.. إن يوماً واحداً لكافٍ من أجل أن يعرف الإنسان سعادة هذا العالم».
فيودور دوستويفسكي
في أقاصي الأراضي البعيدة وسط الجبال الشاهقة الغارقة في برد قارس يغوص الليل في سبات عميق، الغابة موحشة يلفها شبح الضباب، والضواري ترتقب فريستها وسط الصمت المطلق، في خضم هذا المشهد الذي اعتادت عليه السماء يشق طريقه وحيداً متسكعاً بين عظمة الطبيعة الإلهية رجل قوقازي تسعيني أشعث الشعر ذو لحية قطنية بيضاء، تستره أسمال بالية اسمه محمدوف، ويطلق عليه أبناء قريته لقب (قلب القرية) نظراً لحبهم الشديد له ومكانته الاجتماعية بينهم، ولكن محمدوف كان لا يطيق هذا اللقب، لأنه لطالما كان يردد على مسامعهم في جنبات حديثه اللطيف الوديع معهم أنه «أفقر رجل في العالم»، ذلك بسبب أن الفقر قد استولى على صحته ورغبته في الاستمرار في الحياة، فلم ينجب قط، وعاش طوال حياته يجهل من هما أبواه وقد ذبل وجهه بشكل مخيف من الجوع حتى لا تكاد ترى فيه أي ميزة بشرية!
ذات مرة وهو يقوم بإحدى جولاته الصباحية المعتادة، والتي يبدأها من كوخه المتهالك إلى السوق الشعبي انتهاء بمجلس حكماء القرية، التقى محمدوف بشيخ طاعن في السن قد تخطى المئة اسمه سريال، وقد جرى الحديث بينهما على هذا النحو:
سريال: ما لي لا أراك مبتسماً أبداً يا محمدوف؟
محمدوف: كيف لي أن أبتسم ولم تبتسم لي الحياة في تسعين سنة مرة، مرة واحدة فقط!
سريال: ولكننا نحبك يا (قلب القرية) ألا يهمك ذلك؟
محمدوف: نعم ولكنني كما تعلم أنا (أفقر...). قاطعه سريال هنا ولم يدعه يكمل جملته الشهيرة، ثم أردف يقول لمحمدوف بصوت الواثق: نولوم أفقر رجل في العالم، ولا يشغلنك هذا الأمر ثانية.
ارتعد محمدوف في مكانه وقال بصوت مهزوز يفيض عاطفة والدمع ينسكب على وجنتيه: أحقاً هناك من هو أفقر مني؟ فأجابه سريال بفتور هذه المرة: نولوم أفقر رجل في العالم، ثم ألقى التحية عليه، ومضى في طريقه.
لكن محمدوف استوقفه قائلاً: ولكن كيف لي أن ألتقيه؟ فقال له سريال: ستجده على قمة جبل القناعة.
هنا نعود إلى مشهدنا الأول عندما شق محمدوف طريقه متجهاً صوب الغابة المعتمة، مبعثر الأفكار متقد العزيمة متجهاً إلى قمة جبل القناعة، وبعد رحلة شاقة طويلة كادت تكلفه حياته تمكن محمدوف من الوصول إلى قمة الجبل.
راح يفتش في كل الجهات محدقاً في الكهوف وأعشاش النسور الفارغة بين الصخور عن نولوم أفقر رجل في العالم، ولا نعلم إلى اليوم ماذا حدث بعدها.
* أعزائي القراء انتهت القصة هنا لكن لم تنته قراءتك، فكلمة «نولوم» هي كلمة لاتينية وتعني «لا يوجد»، لذلك لكي تصل إليك رسالتي أستأذنك أن تقرأ القصة ثانية وأن تضع كلمة «لا يوجد» بدلاً من نولوم.
Ahmed_almadloum
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.