سياسة التسامح
التسامح دين وسياسة، وحكمة وكياسة، وعقل ورياسة، نعم هو كذلك؛ لأنه يؤلف ويجمع ويقرب ويعين.. وكل ذلك مما ندب إليه شرعنا الحنيف، فهو دين عالمي يريد الله أن يشع نوره في الكون حتى يعرف الناس ربهم ويعبدوه حق عبادته، ولا يكون ذلك إلا بأن ينفتح على الآخر حتى يتعرف عليه، فيعرف ما في الإسلام من خير ومكارم، وهذا ما أشار إليه الذكر الحكيم بقوله: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾، والمعنى أن لينك سبب للتقارب والتعارف وقبول الحق الذي جئت به يا محمد، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وكما قال الزهري، رحمه الله، في شأن صلح الحديبية الذي كان سبباً لدخول كثير من أعداء الإسلام فيه: «فلما أمن الناس وتفاوضوا لم يكلم أحد بالإسلام إلا دخل فيه، ولقد دخل في تينك السنتين في الإسلام أكثر مما كان فيه قبل ذلك، وكان صلح الحديبية فتحاً عظيماً».
وكان هذا التسامح مع وثنيين مشركين، يعبدون اللات والعُزَّى ومناة الثالثة الأخرى، حتى أن بعض كبار الصحابة لم يطقه؛ لما في ظاهره من الحيف على الدين الحق والرسالة الإلهية العظيمة الخاتمة، لكن الله شرعه ليكون منهجاً لهذه الأمة المرحومة، فانظر كيف كان أثره عظيماً على المسلمين، وعاقبة مدوية على أعدائهم المجحفين، وهكذا تكون عاقبة المتقين دائماً، ونحن اليوم بحاجة ماسة إلى هذا المنهج النبوي العظيم، فما أشبه حال الأمة اليوم بيوم الحديبية.
وكثير من المسلمين على دراية تامة بمنهج الإسلام التسامحي، ولكنهم لا يطبقونه في واقعهم، فتجد فيهم الشحناء والبغضاء لكل مخالف لهم في فكر أو مال أو سياسة أو رُؤى، فتكون حياتهم مليئة بالمنغصات، مع أن النبي، عليه الصلاة والسلام، قد نهى عن مثل ذلك، وسمى الخلاف حالقة، أي مفسداً للدين، كما روى أبوداود وغيره عن أبي الدرداء، رضي الله عنه، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟»، قالوا: بلى، يا رسول الله، قال: «إصلاح ذات البين، وفساد ذات البين الحالقة».
ومن صور التسامح المهم في هذه الأزمان والظروف إحياء التسامح مع الآخر، كما كان عليه سلفنا الماضون، الذين عايشوا مختلف الديانات في أوج الحضارة الإسلامية وقوتها، بروح سمحة منصفة، وعاشوا معهم على مبدأ المواطنة المتساوية الحقوق والواجبات في حماية الوطن وعزته ونفع أهله، فعاش اليهودي والنصراني والصابئي واليزيدي والمجوسي والعلوي وغيرهم بجانب المسلم، يبيعه ويشتري منه ويعامله بإحسان، مع أن ذلك يتجه إلى بَيْعته أو كنيسته أو معبده، وهذا يتردد إلى مسجده خمس مرات، فلا يبغي أحد على أحد، والكل تحت حماية الدولة، ونظام المجتمع المتسامح.
وهذا ما تسعى إلى إحيائه دولة الإمارات العربية المتحدة، التي عرفت الحضارة الإسلامية بأصولها وفروعها، وها هي تحيي معالمها بوشائج الإخاء الإنساني، الذي جعله القرآن الكريم أصلاً من أصول الخلقة الإنسانية الكريمة عند الله في التكوين، المتفاضلة عنده سبحانه بالإيمان والتقوى.
وما مؤتمر الأخوة الإنسانية العالمي، الذي سيعقد يومي 3-4 فبراير في العاصمة أبوظبي، بحضور رمزي الديانتين الإسلامية والمسيحية، شيخ الأزهر الشريف رئيس مجلس حكماء المسلمين، وقداسة بابا الكنيسة الكاثوليكية البابا فرنسيس؛ إلا تفعيل حقيقي لروح التسامح الذي يحتاجه الناس في مختلف بلدانهم؛ لأنه يحقق للجميع التعاون على البقاء لا على الفناء، وعلى التطوير لا على التدمير، وعلى التواد الذي هو روح الحياة لا على الكراهية التي تزكم الأنوف وتمرض الصدور وتميت القلوب.
ودولة الإمارات تنشد الحياة الآمنة المطمئنة لشعبها ولكل شعوب العالم، ولكنَّ كثيراً منهم لا يعرفون أن مفتاح هذه الحياة هو التسامح والتعاون على القيم المشتركة التي لا يختلف عليها النوع الإنساني، وإذا كان الناس لهم أسوة في مرجعياتهم الدينية، فهذه المرجعيات تتآلف على ثرى الإمارات، ليكون لهم في منهج الإمارات المتسامح الراقي أسوة، لعلهم به يهتدون وعليه يسيرون.. وفق الله الجميع لكل خير ومحبة.
«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .