المحنة والمنحة
قيل في الحكمة المشهورة: «ما من مِحنَة إلا وراءها مِنْحة»، والمعنى أن المحن التي يتعرض لها العبد المؤمن لا تخلو أن تكون منطوية على منحٍ إلهية قد لا تكون ظاهرة في بادئ الأمر، وقد تظهر على أثر المحنة أو تظل خافية حتى يجد أثرها في اليوم الآخر، وشاهد ذلك ما كان من قصة الخضر وموسى عليهما السلام؛ فإنها بدأت بمحن متوالية لم تلبث أن كانت عاقبتها منحاً ظاهرة، وكذلكم المحن التي لقيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون، ومن أشهرها عمرة الحديبية التي صُدوا عنها من غير سبب، وتليها ذلكم الصلح الجائر الذي شق على المسلمين، فلم يلبث أن كان فتحاً مبيناً، وهكذا كان ليوسف الصديق عليه السلام محن متوالية أعقبتها منح عظيمة.
ولايزال واقع هذه الحكمة يتجدد في كل زمان ومع كثير من المؤمنين، ويشهد لذلك ما ورد في حديث الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئة».
أقول هذا في سياق ما فرح به المسلمون بعد ترحهم الكبير في قصة مجزرة السفاح الأسترالي للمسلمين المصلين في نيوزيلندا، الدولة المحترمة المسالمة، فإن تلك المذبحة النكراء التي راح ضحيتها العشرات من المسلمين الأبرياء، لم تنشف دماؤهم حتى أقر الله أعين أهلهم الموتورين بموقف مشرف؛ أولاً من الحكومة والشعب النيوزيلندي الذي عبرت عنه رئيسة الحكومة المحترمة من تضامنها مع الشهداء وأهليهم والأمة المسلمة في بلادها، وتعهدها بحمايتهم ومشاركتهم تشييع الشهداء، وخطابها المشرف المطمئن للمسلمين، ما استوجب الشكر من زعماء الأمة الإسلامية وشعوبها، وعلى رأسهم قيادة دولتنا الحبيبة الإمارات العربية المتحدة التي أثنت على هذا الموقف الحكيم الذي مسح جراحات المسلمين، وثانياً بالأعداد الكبيرة التي دخلت الإسلام لما رأوا سماحة المسلمين وحسن دينهم، والذي يدل دلالة واضحة على معنى قول الله تعالى: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ﴾[التوبة: 32] ناهيك عن تبرؤ أقرب المقربين لذلكم السفاح الأثيم كأمه وزوجه، ورأيهم ما يستحقه من عقاب رادع.
ومن ذلك ندرك صدق ما أخبر الله تعالى بقوله: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾، وما أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم كقوله: «ليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله عز وجل بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل».
والعبرة التي نستفيدها من ذلك؛ أنه لا ينبغي للمؤمن أن يتبرم من المحن التي قد يبتلى بها فإنه لا يدري عواقب الأمور، ويعلم أن ما قدره الله تعالى له من محن، فذلك لا يعني غضبه عليه بقدر ما يكون لطفاً به، أو يكون اختباراً لصبره ومدى رضاه بربه سبحانه، وأن عليه أن يتعامل مع المقدور بالرضا والتسليم لما قدره الله له أو عليه، كما أن عليه أن لا يضيق صدراً بحال المسلمين الذي يسر العدو ولا يرضي الصديق، وعليه كذلك أن يعلم أنه لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، وأن عليه أن يتعامل بحكمة في كل مقدور له وعليه، وبذلك يسعد في الدنيا، ولعله يؤجر في الآخرة إن علم الله صدق صبره وتسليمه لربه سبحانه.
إن الأصل في دنيا المؤمن هو الكبد والتعب، وأن عليه أن يتعامل مع حوادث الزمان بالصبر والاحتساب، وسيجد عاقبة ذلك نُجحاً وربحاً، وإلا فإنه يتعب ويُتعب ولا يغير من الواقع وطبيعة الأمر شيئاً، وكما قال أبوالحسن التهامي:
طبعت على كدرٍ وأنت تريدُها ... صفواً من الأقذارِ والأكدارِ
ومكلف الأيام ضد طباعها ... متطلبٌ في الماء جذوة نارِ!!
• نسأل الله أن يمنحنا ما يرضينا ولا يبتلينا بما يُعنينا.
«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.