الاميغدالا وتاريخ الخوف
ما هذه الرعدة التي سرت في جسدي بغتة كأن وميضاً داخلياً اشتعل فيني؟ ماذا دهاني، إني أشعر بالذعر الشديد، قلبي ينبض بسرعة، تنفسي مضطرب ولكن لماذا؟ ها! ما هذا الصوت الخفي الذي يتخلل بين الأعشاب الطويلة؟ إنه نمر نمر اهرب اهرب.
كان ذلك حديثاً ذاتياً قصيراً بين الإنسان القديم وملك الخوف الذي تطلق عليه أسماء عديدة أخرى منها الاميغدالا أو اللوزة الدماغية، وهي جزء صغير يشبه اللوزة يسكن في الجزء الخلفي من دماغ الإنسان منذ آلاف السنين، ويعمل كحارس شخصي له لتحذيره من أي خطر يداهمه، فالقانون القديم الذي كان يسري في الغابة آنذاك كان «هل آكله أم يأكلني؟».
كان العيش في الغابة محفوفاً بالمخاطر على الدوام، فلا يعلم الإنسان القديم متى يأكله الدب أو تلدغه أفعى سامة، لذلك كان يلازمه الحذر أينما كان من أجل البقاء على قيد الحياة، حيث تقوم مهمة الاميغدالا الأساسية بعمل المدقق الأمني عن طريق القيام بمسح شامل لجميع العواطف والمشاعر التي مر بها الإنسان في السابق، وتطلق إشارات تحذيرية إذا أحست بوجود أي خطر قد يهدد سلامته، لنُسمّها إذن «جمارك الدماغ»، فلا يمكن أن يمر أي شعور أو عاطفة مخرنة في ذاكرة الإنسان من دون زيارة الاميغدالا للتدقيق الأمني!
لكن مع ظهور الإنسان العاقل وانتقاله الى الحياة المدنية بعيداً عن الغابة ومخاطرها مازالت بيروقراطية الاميغدالا تهيمن على الدماغ، كالمدير المتعصب الذي لا يريد التغير ومواكبة التقدم! فالخطر الذي كان في الأيام الغابرة «انتبه هناك أسد خلف الشجرة!»، أصبح اليوم «رئيسي أرسل لي إيميل شديد اللهجة!»، نعم فمازالت الاميغدالا تعمل بالطريقة نفسها التي كانت تعمل بها منذ آلاف السنين! يا لها من رجعية.
لذلك أغلب المخاوف التي تواجهنا في حياتنا اليومية هي مجرد أوهام ضخمت من حجمها الاميغدالا عن طريق إرسال إشارات تحذيرية الى القشرة الجبهية (Pre frontal cortex) المسؤولة عن التفكير المنطقي والإبداعي، وذلك عند مصادفة خطر ما. المشكلة في الأمر أن الاميغدالا هي صاحبة الكلمة الأخيرة ولها هيمنة كاملة على القشرة الجبهية، فعندما تصل هذه التحذيرات التي قد تكون غير حقيقية غالباً الى القشرة الجبهية حينها يدخل الإنسان في مرحلة من التفكير اللامنطقي يطلق عليها (Amygdala Hijack)، فيتمكن الخوف منه وتغلب عليه عواطفه، وبناء على ذلك يتخذ قرارات قد يندم عليها مستقبلاً، وتلك الحالة تحدث لأشخاص أذكياء جداً أيضاً، ما يجعلهم يتصرفون كالأغبياء.
يذكر لنا دانيال جولمان مؤلف كتاب «الذكاء العاطفي»، أنه حتى يقدر الإنسان على أن يخفف من سيطرة الاميغدالا على مجريات حياته يجب عليه أن يتمتع بذكاء عاطفي، فالوعي الذاتي مهم جداً عند اتخاذ أي قرار، والذكاء العاطفي باختصار هو قدرة الإنسان على السيطرة على عواطفه.
المعركة الضارية التي تدور في عقل الإنسان بشكل يومي هي بين الاميغدالا والقشرة الجبهية (Pre frontal cortex) بين اللامنطق والمنطق، وحتى ينتصر المنطق ينصحنا أحد أذكى المستثمرين في العالم راي داليو بممارسة التأمل بشكل يومي لمدة عشرين دقيقة في الصباح والمساء، حيث قال في إحدى مقابلاته عن فوائد التأمل «أنت تعيش اليوم في عالم تحدث به الكثير من الاشياء، لكنك عندما تتنقل إلى الخواء والفراغ أووووووه، فذلك شعور لا يوصف».
لذلك التأمل يساعدك على الانتقال الى حالة ذهنية متجددة تجعلك هادئ البال مسيطراً على عواطفك وعلى قراراتك، كما توجد هناك تطبيقات عديدة للتأمل يمكنك استخدامها منها Headspace وبرامج عملية شهيرة مثل MBSR Program وكل هذه الجهود بذلت لتنتصر القشرة الجبهية في حربها الضروس على الاميغدالا والبقاء للأقوى.
* شكر خاص للدكتور ديبيش تشاودري والدكتور هي لو والباحثة عائشة الحمادي من جامعة نيويورك على تعاونهم وتزويدي بالمراجع العلمية التي ساعدتني في كتابة هذا المقال.
• مع ظهور الإنسان العاقل وانتقاله للحياة المدنية بعيداً عن الغابة ومخاطرها، مازالت بيروقراطية الاميغدالا تهيمن على الدماغ.
Ahmed_almadloum
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.