الخيط الأبيض من الخيط الأسود
ورد ذكر الخيط الأبيض والخيط الأسود في سياق تحديد الزمن الذي يُباح فيه للصائم الأكل والشرب والرفث، وأمد انتهائه، حيث جعل الشارع الحكيم أمد ذلك تبينَ الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وهو من التعابير البلاغية العظيمة للقرآن الكريم، والخيطان هنا مجاز عن إشراق النهار، وظلمة الليل، أي طلوع الفجر الصادق الذي يحرم الطعام ويوجب الصيام والصلاة، وهو المبين بقوله عليه الصلاة والسلام: «إن بلالا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم»، وفي حديث آخر يقول عليه الصلاة والسلام: «لا يمنعنَّكم من سحوركم أذان بلال، ولا الفجر المستطيل، ولكن الفجر المستطير في الأفق»، أي المنتشر في الأفق الذي يأتي من قبل المشرق، وقد فهم بعض الصحابة، رضي الله عنهم، من الخيطين التمايز بين خيطين حقيقيين برأي العين، فردّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم فهمه هذا، مبيناً له أن ظاهر التمايز غير مراد، بل لوح ضوء النهار في الأفق، أي طلوعه وإن لم يدرك حقيقة التمايز بين الخيطين، ولا يدرك ذلك إلا لمن كان في بريَّة خالية من وهج الكهرباء مع صحو الجو وصفائه، وقد كان ذلك سهلاً للأقدمين، أما في زماننا المضيء بالكهرباء وأجوائنا الملبدة بنفايات المدنية فإن إدراكه عسير جداً، إلا أن المؤقِّتين قد كفونا المؤنة، حيث تحملوا عناء السفر إلى البراري والقفار البعيدة عن الأضواء فرصدوا طلوع الفجر الصادق بدقة متناهية، ودونوا ذلك في التقاويم المؤصلة المعتمدة، فوجب الالتزام بها في الصوم والصلاة، مثل قبول قولهم بدخول أوقات الصلوات الخمس، فكان أذان الفجر هو الفاصل بين الليل والنهار، فمن يتناول شيئاً من المفطرات بعد سماع الأذان مع العلم بأن المؤذن لم يخطئ؛ فإنه يكون منتهكاً لحرمة اليوم متعدياً على حدود الله تعالى.
الخيط الأبيض من الخيط الأسود من التعابير البلاغية العظيمة في القرآن. |
وقد يقول بعضهم إن الأذان لا يمنع من الاستمرار في الأكل أو الشرب، استدلالاً بما رُوي في الحديث «إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه».
ولا يصح الاستدلال بهذا الحديث لمعارضته للآية الكريمة والأحاديث الصحيحة التي فسرت المراد بالخيط الأبيض من أنه أذان ابن أم مكتوم، رضي الله عنه، وعلى تقدير صحته سنداً ومتناً فإنه محمول على أذان بلال، كما قال البيهقي في السنن الكبرى: «وهذا إن صح فهو محمول عند عوام أهل العلم على أنه صلى الله عليه وسلم عَلِم أن المنادي كان ينادي قبل طلوع الفجر بحيث يقع شربه قبيل طلوع الفجر».
أو يكون معناه أن يسمع الأذان وهو يشك في الصبح مثل أن تكون السماء مغيِّمة، فلا يقع له العلم بنداء المؤذن أن الفجر قد طلع، لعلمه أن دلائل الفجر معه معدومة، ولو ظهرت للمؤذن لظهرت له أيضاً، فأما إذا علم انفجار الصبح فلا حاجة به إلى نداء المؤذن؛ لأنه مأمور بأن يمسك عن الطعام والشراب إذا تبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر.
على أن الشك مع وجود التقاويم وضبط الساعات والمنبهات منتفٍ في الغالب.
كما أن مشروعية صلاة الفجر عندئذ تُبطل الاستدلال بهذا الحديث عقلاً، فإن بزوغ الضوء هو السبب الموجب لصلاة الفجر، فحيث جازت الصلاة بمجرد سماع الأذان فإن ذلك يدل على عدم جواز الأكل أو الشرب عنده، إذ لو كان الليل باقياً لما جاز له أن يصلي، ولذلك استحب الفقهاء أجمعون الإمساكَ قبل طلوع الفجر الصادق بنحو عشر دقائق خشية أن يتناول المفطرات في وضح النهار، وهو ما يشير إليه حديث البخاري عن زيد بن ثابت، رضي الله عنه، قال: «تسحرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قام إلى الصلاة، قلت: كم كان بين الأذان والسحور؟ قال: قدر خمسين آية»، والمعنى أنه كان يمسك بعد السحور بقدر خمسين آية، فلا ينبغي الإنكار على مثل هذا الإمساك، فإنه سنة مأثورة واحتياط للعبادة، وفي الحديث الصحيح «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك».
«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»