5 دقائق
التشدد الزائد كالتساهل الزائد
«التشدد الزائد كالتساهل الزائد»، عبارة راقية وحكمة غالية قالها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود – حفظه الله - عندما قابلناه يوم الأحد 14 من شهر رمضان المبارك في قصر السلام بجدة، عبارة تختصر معنى الوسطية الإسلامية التي رددها عند حديثه القيّم مع رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي وأعضاء المجلس الحاضرين، وهي بلا شك، تحكي منهج حكمه وسمو حكمته، وأنه يرفض طرفي الإفراط والتفريط، لأن ذلك ينافي وسطية الإسلام الذي تميز به عن الديانات السماوية السابقة، فهو دين ينهى عن الغلو ويذمه، وينهى عن التقصير في واجباته وآدابه ويذمه كذلك، ولهذا كانت هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس، فالملك الذي يعتز بلقب خادم الحرمين الشريفين، ويفضله على لقبه الرسمي - جلالة الملك - يعني بمدلول هذا اللقب مسؤوليته في خدمة الإسلام التي عبر عنها أكثر من مرة من واقع الرسالة العالمية التي خرجت من الأرض العربية، وباللسان العربي المبين الذي نزل به الذكر الحكيم، وما أحوج الأمة أن تعرف هذا المنهج الإسلامي الوسطي العظيم الذي تميزت به، والذي به تستطيع أن تبلّغ رسالة ربها، ودعوة نبيها المصطفى، صلى الله عليه وسلم، للناس أجمعين، بهذا المنهج الذي دعا به النبي، عليه الصلاة والسلام، وعايش به الديانات السماوية المختلفة حتى الوثنية الجاهلية التي كانت عليها الجزيرة العربية، فقد عايش هذه الوثنية 13 عاماً، وهو لا يزيد على الدعوة إلى الله تعالى بالحسنى، ولم يبدأ أحداً بقتال، حتى كانوا هم البادئين، فأذن الله تعالى له دفع العدوان، وعايش بها اليهود والمنافقين ونصارى العرب، وأمر أمته أن تحمل دعوته بهذا الأسلوب الوسطي العظيم، فكان إذا بعث أحداً من أصحابه في بعض أمره، قال: «بشّروا ولا تنفّروا، ويسّروا ولا تعسّروا». وهو تعليم واضح الدلالة والمعنى، فمن انتهجه كان على سنن النبوة الواضح، ومن تنكر له فإنه يسيء إلى الإسلام، وقد كان عليه الصلاة والسلام، يبين نتيجة التفريط في هذا المعنى فيقول: «إنّ الدّين يسرٌ، ولن يشادّ الدّين أحدٌ إلّا غلبه، فسدّدوا وقاربوا، وأبشروا...»، أي أبشروا بثمرة هذا السلوك من الثواب العظيم، والأثر البالغ على الناس، أما الغلو فإنه يأتي بنتائج عكسية، فهو ينفر القريب والبعيد ويصد عن دين الله تعالى، وها نحن نرى كم أساء هذا الغلو للإسلام اليوم، حيث رمي عن قوس واحدة بتهمة الإرهاب، وأوذي المسلمون عن بكرة أبيهم، فما من أحد من المسلمين إلا وقد تأثر به تأثراً مباشراً أو غير مباشر، وما أغنانا عن هذا التأثر لو أن الوسطية الإسلامية كانت شعار الدعاة في الصحوة الحاضرة! فكم كان سيفتح من بلاد ويدخل فيه من عباد مع هذا الانفتاح غير المتناهي مع العالم؟! فكان بالإمكان أن يسمع الآخر سماحة الإسلام ورحمته وكرمه وإيثاره وحلمه ومحبته وإكرامه للإنسان وحبه للحياة، وإسهامه في العلوم والحضارة وتعاونه مع الآخر في نفع البشرية، وغير ذلك مما لو سمعه العالم المسيحي أو اليهودي أو الوثني أو من لا دين له لدخلوا في دين الله أفواجاً، ولكفي المسلمون والعالم أجمع شر «الإسلام فوبيا» التي لصقت بنا وبديننا البريء من ذلك براءة الذئب من ابن يعقوب، عليه وعلى ابنه السلام.
نعم لا نشك في أن التنفير من الإسلام بدعم الغلو والتطرف لم يكن نشأة إسلامية، بل هو غراس مصنوع ليثني الناس عن الدخول فيه أو التعاطف معه على الأقل، بما يعرف بالحرب الاستباقية على نشر الإسلام حتى لا يسمع لمن يحمل المنهج الوسطي، لأن الهدم أسهل من البناء وأبلغ أثراً، لكن هذا لا يعفينا معاشر المسلمين من النهوض بعد النكبة والإفاقة من الغفوة، فما دام أن معنا من الحكام الراشدين من يحمل هذا المنهج وينصره، فعلينا أن نجدد ما اندثر من معالم هذه الوسطية بكل عزيمة، ولا تستعجل النتائج فإنها ستأتي قريباً أو بعيداً، وواجبنا هو تحمل المسؤولية بجدارة كما أشار خادم الحرمين الشريفين، فإننا معاشر العرب على وجه الخصوص ملومون جداً في تأخرنا عن تحمل هذه المسؤولية؛ لأن نظرة العالم كله متجهة إلينا بالخير أو الشر، وعلينا أن نقوم بواجبنا تبرئة للذمة ونصرة للإسلام والمسلمين.
«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .