«أنا عتريس»
في مشهد بديع من إبداعات السينما المصرية في فيلم «شيء من الخوف»، يصيح «رشدي»، أحد رجال «عتريس»، في أهالي القرية، ويأمرهم بدفع مبلغ الإتاوة الذي يدفعونه لعتريس، حيث تقمص شخصيته، وإذا بالأهالي ينهالون عليه بالضرب والسخرية، وهو يصيح «أنا أجدع من عتريس، أنا عتريس». أبدع الأستاذ الكبير أحمد توفيق في إتقان هذا الدور، بل أصبحت مقولته «أنا عتريس» اختزالاً ونموذجاً معبراً لكل من يتقمص دور غيره، ويقنع نفسه بأنه شيء آخر وشخصية أخرى تتنافى مع الواقع، بل تصل ظاهرة عتريس إلى درجة الفصام أو «الشيزوفرينيا» عندما يقتنع متقمصو الأدوار أنهم بالفعل يمتلكون تلك الشخصية، وهم أصحاب هذا الدور، ثم يتعاملون مع الناس على هذا الأساس، وإن كان كل منا لديه مطلق الحرية في التقمص أو عدمه، لكن المشكلة هي أنهم يتوقعون من الآخرين أن يقتنعوا بشخصيتهم المسروقة، وأن يصدقوا أنهم «عتريس».
تتفاقم تلك الآفة الاجتماعية يوماً بعد يوم، بسبب سهولة التواصل، وإمكانية فرض النفس على الآخرين، فعلى سبيل المثال لا الحصر فجأة أصبح لدى كثير من الأشخاص قناعة بأنهم طهاة عالميون، وذلك دون دراسة أو تدريب أو حتى معرفة بأبجديات الطهي، بل بأبجديات النظافة وسلامة الغذاء، فما أسهل البث الحي وغير الحي على «يوتيوب»، وعمل قناة مجانية لتعليم الناس وإلهامهم فنون الطهي، في حين أن منظر الأطباق وأواني الطهي يصيب المشاهد بالغثيان.. وذلك شخص قمة في رهافة الحس والإحساس، لا تكاد تسمع صوته، يطلق على نفسه شاعراً، ويخرج ما تجود به قريحته من كلام غير مفهوم، وجمل غير مكتملة التركيب، ولا مفهومة المعنى، ليطلق عليها شعراً، ويتبنى أسلوباً لا يلتزم بأي قوافٍ أو أوزان أو أي قاعدة من قواعد الشعر، ويلقب نفسه بألقاب رنانة، فما الذي يميز أحمد شوقي أو عمر أبي ريشة عنه مثلاً؟ المشكلة الأساسية أن هؤلاء «العتريسيين» هم أعداء أنفسهم، لأنهم يعيشون في عالم افتراضي منعزل عن العالم الحقيقي، وبالتالي فهم دائمو الوحدة، ويشتكون ليلاً ونهاراً أن أحداً لا يفهمهم، ولا يقدر مواهبهم الفذة، وإذا نصحهم ناصح يهاجمونه، ويعتبرون أنه منغلق، ولا يقدِّر مواهبهم الاستثنائية. عموماً، أنا شخصياً لا أمانع، ولا أظن أن هناك من يمانع، بل لا يستطيع أحد أن يمانع، فكلٌ يفعل ما يحلو له، وكلٌ مسؤول عن أفعاله، وكل ما أستطيع عمله حيال هذا الموضوع هو دعوتكم لمشاهدة الفيلم الرائع «شيء من الخوف»، الذي تم ترشيحه لمهرجان موسكو السينمائي عام 1969، وأثنى عليه الرئيس الراحل جمال عبدالناصر.
• المشكلة الأساسية أن هؤلاء «العتريسيين» هم أعداء أنفسهم لأنهم يعيشون في عالم افتراضي منعزل عن العالم الحقيقي.
@Alaa_Garad
Garad@alaagarad.com
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.