الصيف والفراغ
من نعم الله تعالى علينا تقلُّبُ الليل والنهار، وتغير الفصول صيفاً وخريفاً، وشتاء وربيعاً لننعم بخيرات الفصول المختلفة، وهو الأمر الذي تفقده بعض البلدان والشعوب، وهذا التقلب من آيات الله تعالى العظيمة، الدالة على كمال حكمته وتدبيره لكونه ومخلوقاته، كما قال سبحانه: ﴿إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ﴾.
وكعادة الصيف الحار أنه يطل علينا بخير الثمار، ويهيئ النفوس لطيب الأسفار، ويشعرها بفراغ الأوقات، ولكل إنسان منهج في التعامل معه؛ فمن الناس من يجعله موسماً لتدارك ما فاته من عمل في تزاحم الأوقات، وهذا هو الحريص على عمره الذي هو رأسماله، فلا يضيِّعه في ما لا يعود عليه نفعه، ومنهم من يضيفه إلى ما ضيَّع من ساعات عمره، وهذا هو الذي لا يبالي بعمره؛ لأنه لم يعدَّه رأسماله، وسيندم على ذلك كثيراً.
غير أن صغارنا، الذين لا يميزون ما ينفعهم مما يضرهم، هم أمانة في أعناقنا، والأمين عليه مسؤولية أكبر من مسؤوليته عن نفسه وماله، لترتب حق المساءلة عما استرعاه واؤتمن عليه، فمن استشعر هذه المسؤولية جعل صيف صغاره موسماً لنفعهم وزيادة تنمية مهاراتهم، فإنهم قد فرغوا من عناء التحصيل الدراسي النظامي الذي ختموه بالامتحانات النهائية، لينتقلوا بعد صيفهم إلى مراحل أخرى أو إلى ميادين العمل والبناء، فعلينا أن نبرمج لهم وقت فراغهم بما يعود عليهم نفعه، ويسرنا حالهم فيه من التطور الذهني والمعرفي.
إن الصيف في الحقيقة هو فرصة عمر الشباب لاستغلاله في النشاط الثقافي والمعرفي، سواء كانوا في البلاد أو سافروا للاستجمام، وذلك بتوجيههم نحو المراكز الثقافية النافعة، كمراكز تحفيظ القرآن الكريم، ومراكز الأنشطة الصيفية النافعة ذات التوجه السليم التي تكون تحت أعيننا وأعين الجهات المعنية، أو نحو الدوائر والمؤسسات التي تستقبل الطلاب لتدريبهم على العمل الإداري أو المهني، حتى إذا ما تخرجوا عرفوا أين يذهبون وما يختارون، وعلينا توجيههم نحو هذه الأنشطة النافعة التي تفيدهم وتحفظهم من الضياع، حتى نُعد للمسؤولية التي حُمِّلناها جواباً، وبياض وجه عندهم يوم يكبرون، ويعرفون ما عملناه معهم ولهم فيحمدونه.
إن الفراغ الكبير الذي سيقبل عليه أبناؤنا وبناتنا هو أحد أسباب نجاحهم أو فشلهم، ونحن الآباء معنيون في نجاحهم وحمايتهم من الفشل، فإن النفس إذا لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل ولابد، كما قال بعضهم:
إن الفراغ والشباب والجَدَه * مفسدة للمرء أيُّ مفسده
وكل ذلك هو ما يجده شبابنا وشاباتنا هذه الأيام، فإن هذه حكمة مجربة، وخبرة مكتسبة، يعرفها كلٌّ منا، فينبغي ألا نجعل لأبنائنا فراغا قاتلاً، بحيث تضيع فيه أعمارهم ومصالحهم، فإن فرصة العمر المتوقدة فيهم وهي نواة نجاحهم، هي مرحلة الشباب، وكما قالوا: «إنما الحياة الشباب»، لأن المرحلة العمرية الأولى هي التي تقبل التطويع والترويض والإصلاح، فإذا ذهبت فمن الصعب تقويمهم، كما قالوا:
عدَّلِ الغصن ما دام يعتدلُ ما ينفع التعديل عند الكبرِ
ومسؤولية الآباء والأمهات في حفظ هذه المرحلة كبيرة، فعليهم أن يستغلوها أحسن استغلال، بأن يجعلوا الصيف جذوة نشاط لأبنائهم وبناتهم حتى ينتفعوا في دنياهم وأخراهم، فإن ما يجدونه من السعة في الرزق وفراغ الوقت، يعتبر فرصة لا تقدر بثمن لاكتساب المهارات لا لضياعها باللهو والباطل.
وبحمد الله أن الدولة قد هيأت مراكز متخصصة لتحفيظ القرآن الكريم والأنشطة الرياضية المختلفة، فمن المهم استغلالها بما ينفع، لا أن تترك كأنها لم تكن، ومن أهم ما ينفع وينمي الفكر القراءة النافعة، فتنمية مهارة الأبناء والبنات بالقراءة النافعة كفيلة بأن تنضج عقولهم، فمن المهم توفير وسائل القراءة المفيدة من كتب وبرامج ونحوها، مع وسائل ترغيب طيبة، وعندها سيرى المرء ما يسره من ذكاء متوقد، وعمل نافع.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.