5 دقائق
﴿وقولوا للناس حُسنا﴾
خطاب الله تعالى لعباده أن يقولوا للناس قولاً حسناً، هو خطاب تكليف عام، كسائر الخطابات التكليفية الأخرى التي مقتضاها الأمر والنهي «افعل ولا تفعل»، فيترتب على امتثاله الثواب وعلى تركه العقاب، والمخاطبون بهذا الخطاب التكليفي هم أصحاب القول من الدعاة ونحوهم ليقولوه لعموم الناس، فإنه سبحانه أمر بالإحسان في القول لجميع الناس، مؤمنهم وكافرهم، برهم وفاجرهم، وفي هذا حض على مكارم الأخلاق، بلين الكلام، وبسط الوجه، والأدب الجميل، والخلق الكريم، كما قال بعضهم:
بني إن البر شيءٌ هينُ.. وجهٌ طليقٌ ولسان ليِّنُ
ولم يستثنِ الله تعالى من هذا العموم إلا من ظُلم ليجزي السيئة بسيئة مثلها، على سبيل الدفاع فقط، وإن عفا وأصلح فهو خير له وأجره على الله.
وقد كان هذا الخطاب أصلاً من أصول الدعوة إليه سبحانه، وأصلاً في كل التعاملات المادية والاجتماعية، حتى يؤتي القول الحسن ثمرته، فإن لم يكن حسناً كان سبباً للنزاع والفوضى، وقد قرر القرآن الكريم أثر القول الحسن والقول الفظ الغليظ في محكم كتابه، ومن واقع حياة نبيه المصطفى، عليه الصلاة والسلام، حيث قال سبحانه: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾، والمعنى أن التفاف الناس حولك وقبول دعوتك والإيمان بك كان بسبب لين القول لهم، ولو لم تكن كذلك بأن استبدلت الفظاظة باللين لما كان معك أحد، لأن الطباع البشرية تأبى أن تقبل الفظ الغليظ، وإن كان على حق وصواب، لما تشعر به من المهانة وسلب العزة، وقد كان منهجه، عليه الصلاة والسلام، العام الذي لا يتخلف، أنه يكره الفحش والتفاحش، فلا يواجه أحداً بما يكره، ويلين القول مع القريب والبعيد، حتى مع أعدائه ومحاربيه، ولا تزيده شدة العداوة إلا ليناً في القول ورحمة بالمدعوين، كما ورد أنه: «لما كسرت رَباعِيَّتُه، صلى الله عليه وسلم، وشُج في جبهته، فجعلت الدماء تسيل على وجهه - بأبي هو وأمي ونفسي التي بين جنبيِّ - قيل: يا رسول الله، ادع الله عليهم، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى لم يبعثني طعاناً ولا لعاناً، ولكن بعثني داعية ورحمة، اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون)» فأي لين ورحمة أكبر من هذا؟! وكما قال شوقي، رحمه الله:
وإذا رحمت فأنت أم أو أبٌ * هذان في الدنيا هما الرحماءُ
وإذا غضبت فإنما هي غضبةٌ * في الحق لا ضغنٌ ولا بغضاءُ
وكان يأمر أصحابه بمثل هذا اللين، فيقول لرسله ودعاته، رضوان الله عليهم: «يسرا ولا تعسرا ، وبشرا ولا تنفرا ، وتطاوعا ولا تختلفا».
وقد وجّه الحق سبحانه مثل هذا الخطاب لنبي الله موسى وأخيه هارون، عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، وهما في صدد دعوة أعتى خلق الله وأشدهم له عداوة «فرعون»، الذي ادعى الربوبية، ومع ذلك لم يكن كافياً لأن يُغلظ له القول مع شناعة المعصية، بل قال لهما ربهما سبحانه: ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾، وقد علم الله تعالى أن لا مطمع من هدايته، ورجوعه عن غيه واستعلائه، ولكن ليعلِّم أنبياءه ورسله ومن يقوم بمهمتهم من بعدهم بهذا الأسلوب الرائع في الدعوة إلى الله تعالى، فما أحوج الدعاة والمصلحين والمربين، بل الناس أجمعين، إلى امتثال أمر الله رب العالمين؟! ولله در الشاعر القائل:
إذا زجرت لجوجا زدته عَلقاً ... ولجَّت النفس منه في تماديها
فعد عليه إذا ما نفسه جَنحت ... باللين منك فإن اللين يُثنيها
إن القول الحسن يدل دلالة واضحة على صفاء القلب وإرادة الحق وكمال النصح، فمن استعمله في مخاطبته فإنه يكتسب محبة المخاطَبين، ويكسب أجرهم إن كان يدعوهم إلى خير ورشاد، فإن الدال على الخير كفاعله، فإن لم يقل مثل ذلك فإنه يكون منفراً للناس، وصاداً لهم عن الهدى، وهو الأمر الذي حذر منه المصطفى، صلى الله عليه وسلم بقوله: «إن منكم منفرين».
نسأل الله تعالى أن يحلينا بأحسن القول وأصدق الفعل.
«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .