5 دقائق
أيام العمل الصالح
مِن تفضُّل الله تعالى على عباده أن جعل لهم مواسم فاضلة من ليالٍ وأيام، يفضُل فيها العمل، ويعظُم فيها الأجر، لمن كتب الله تعالى له التوفيق في استغلالها بما ينفعه ويقدمه ذخراً لنفسه، كما ورد «إن لربكم عز وجل في أيام دهركم نفحات، فتعرضوا لها، لعلَّ أحدكم أن تصيبه منها نفحة لا يشقى بعدها أبداً».
ومن هذه النفحات عشر ذي الحجة، التي فخَّم الله أمرها وأرشد عباده إليها بقوله مقسماً: ﴿وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ﴾، فهذا قسم عظيم بمخلوقات له سبحانه، خصها بالذكر ليدل عباده على علو شأنها ومكانتها عنده، وهي فجر كل يوم أو فجر يوم النحر، وعشر ذي الحجة التي بدأت اليوم، والشفع الذي هو يوم العيد، والوتر الذي هو يوم التاسع وليلته، أقسم الله تعالى بهذه الأقسام، وجواب القسم محذوف، تقديره «لَنُجازِيَنَّ كل أحدٍ بما عَمل»، والمجازاة تكون خيراً على الخير وشراً على الشر، وشواهدها من الذكر الحكيم والسنة المطهرة كثيرة لا تخفى، وكما يقول أهل النحو «الناس مجزيُّون بأعمالهم إن خيراً فخير وإن شراً فشر».
وفي هذا تنبيه للعباد أن يكون لهم حظ من العمل الصالح في هذه الأيام حتى يُجزوا عليه بما يحبون لقاء الله تعالى به، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «ما من أيام العمل الصالح أحبُّ إلى الله فيهن من هذه الأيام - يعني أيام العشر»، ومن أجلِّ الأعمال الصالحة ما أرشد إليه الحق من ذكر الله تعالى وشكره وتسبيحه وتهليله، بقوله سبحانه: ﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ﴾، والأيام المعلومات هي هذه العشر، بخلاف المعدودات الوارد ذكرها بقوله سبحانه: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾، فهي أيام التشريق، فأرشد سبحانه إلى استغلال هذه الأيام بذكر الله تعالى؛ لأنه أفضل الأعمال بعد الفرائض التي هي أيضاً ذكر لله تعالى، ولكن المراد هنا الاشتغال بالذكر باللسان واستحضار الجَنان؛ تسبيحاً وتهليلاً وسائر أنواع الأذكار الواردة، كما ورد عنه صلى الله عليه وسلم: «ما من أيام أحبُّ إلى الله فيهن العمل من هذه الأيام، أيام العشر، فأكثروا فيهنَّ التكبير والتهليل والتحميد»، لما في الأذكار من جَلاء القلوب وطهارة النفوس ورفعة المكانة عند الله تعالى، فإنه سبحانه جليس من ذكره، ولما فيها من أنس القلب بالله تعالى ورضاه عنه سبحانه، لذلك كان أكبر من كل عمل صالح، كما قال سبحانه: ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾، وكما جاء من حديث معاذ، رضي الله تعالى عنه: «ما عمل آدميٌّ عملاً أنجى له من عذاب الله تعالى من ذكر الله تعالى، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله تعالى؟ قال: ولا أن يضرب بسيفه حتى ينقطع»؛ لأن الله تعالى يقول في كتابه: ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾، أو أن ذكرُ اللهِ تعالى عبدَه إذا هو ذكره أكبر من ذكر العبد ربَّه، لما في ذكر الله تعالى من العطاء والجود، بخلاف ذكر العبد فإنه ذكر رجاء ورغبة فيما عنده سبحانه.
فإذا كان الذكر يعطي العبد هذا العطاء الإلهي؛ فجدير به أن يكون شغل العبد الشاغل في ليله ونهاره وجميع أحواله، كما قال عليه الصلاة والسلام للأعرابي الذي جاء يسأله قائلاً: «يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علي، فأنبئني منها بأمر أتشبث به، قال: لايزال لسانك رطباً بذكر الله»، فهذا الإرشاد النبوي لهذه الفضيلة العظيمة يقتضي من كل سامع له أن يتشبث به، ويجعل الذكر دَيْدَنه، حتى يحوز ما يقتضيه من الأجر العظيم، فإذا كانت كلمتا «سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم» حبيبتين إلى الرحمن، ثقيلتين في الميزان، وهما خفيفتان على اللسان، فكيف يفرط المرء فيهما، وينشغل عنهما بما سواهما من لغو وباطل! وإذا كان «غراس الجنة سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر»، فكيف لا يكثر المرء من هذا الغراس المثمر هذه الثمرة العظيمة؛ ليخرفها عندما يقدم على ربه سبحانه!
وهكذا يقال في كثير من الأذكار التي ينبغي أن تكون شغل هذه الأيام الفاضلة.. رزقنا الله وإياكم صالح القول والعمل.
«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .