5 دقائق
الهجرة والتاريخ
يتجدد علينا حدثُ الهجرة العظيم كل عام، ونجدد معه الذكرى التي تزيد الإيمان ثباتاً، والرجاء في الله رسوخاً، والتعلق بصاحبها شَغَفاً. نعم، إن هجرة المصطفى، صلى الله عليه وسلم، كانت حدثاً فاصلاً ليس كسائر الأحداث على عظمتها، إنها نقطة تحول من سكون إلى حركة، ودعوة قوم إلى دعوة أمة، وصبر على الأذى إلى دفع له، ولذلك سمّاها الله تعالى «مُدخل صدقٍ ومُخرج صدق»، أي دخول المدينة والخروج من مكة، بعزم وصدق مع الله تعالى ونصرة وحْيِه، فكانت صدقاً مع الله تعالى في إرادة وجهه لتبليغ شرعه ونصح عباده، ومَن صدق مع الله تعالى يجد الله تعالى عونه وظهيره ومؤيده ونصيره.
إن الهجرة النبوية هي فاتحة الخير للأمة الإسلامية، فما كان لهذا الدين أن يظهر على الدين كله، وأن يؤيَّد بنصر مبين؛ لولا الهجرة من دار يغلب على أهله الكفر والجفاء والغلظة، إلى دار آمنوا بالله واتبعوا الرسول وأعدوا أنفسهم لنصرته، وما كان لهم أن يفعلوا شيئاً إلا بأن يكون الهادي البشير، صلوات الله وسلامه عليه، بين ظَهرانيهم، يحمونه وينصرونه ويجاهدون معه، كما اقتضته بيعتا العقبة المباركتان، فما أن وطئت قدماه الشريفتان ثَرى طيبة الطيبة حتى بدأ الدين يتمكن في الأرض وينتشر بين الناس ليشع نوره للعالمين.
يمر علينا هذا الحدث العظيم الذي نؤرخ له بسنتنا الهجرية - على استحياء إن وجد - ونغفل عن معناه، وذلك يُزري بنا كأمة ذات تاريخ مجيد أوجد للبشرية حضارة عظيمة تعيش إلى اليوم في ظلها الظليل، وأصحاب هذا التاريخ يتغافلون عن أثر هذه الهجرة المباركة التي كان النبي، عليه الصلاة والسلام، يشيد بها ولا يعدل بها شيئاً وإن عظُم فيقول: «لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار»، أي إن فضل الهجرة وعظيم منزلتها لا يعدل به شيء كما قال لأعرابي «ويحك إن الهجرة شأنها شديد».
هذه الهجرة، التي تحل ذكراها الحادية والأربعون بعد الأربعمائة والألف، بعد يومين؛ تُسائلنا أين نحن من ذكراها؟!
فَلِم لا نحييها كما تُحيي الأمم تواريخها العظيمة في أيامها المشهودة، أليست الأمم الأخرى تحيي ذكرى الميلاد فتقوم الدنيا ولا تقعد لذكرى ذلك اليوم؟! وحُق لهم أن يذكروه - على ما فيه من نقاش - فنحن أولى بهذه الذكرى احتفالاً وابتهاجاً، وهي الذكرى التي نوه بها القرآن المجيد بقوله سبحانه ﴿لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ﴾فسماها الله تعالى أول يوم، وكأن ما قبل ذلك، وهو زمن طويل، ما كان إلا تمهيداً لهذا اليوم المشهود، ولقد أدرك الفاروق عمر، رضي الله عنه، مغزى هذه الإشارة، فجعل من الهجرة تأريخاً لهذه الأمة العظيمة، مع ما كان يمكن جعله تأريخاً من أحداث عظيمة كولادة النبي، صلى الله عليه وسلم، أو بعثته، أو إسرائه ومعراجه، أو فتح مكة العظيم، أو غير ذلك؛ لأن كل تلك الأحداث العظيمة إنما أظهرها وأبقاها بقاء الإسلام الذي كان بسبب الهجرة المباركة.
إن تاريخنا الإسلامي الهجري هو أحق بالإحياء وأحق بأن نقف عنده وقفات تأمل وتفقُّه: لماذا يترك النبي، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، داره وبلد الله الحرام، ومهوى الأفئدة، وكعبة الله في الأرض.. إلى دار لم يعرفه، وجوٍّ لم يألفه؟! لماذا يهجر أحب البلاد إلى الله وأحب البلاد إليه ويترك أهله وعشيرته؟! فنعلم أن الله ورسوله أعز من الأهل والمال والولد والبلد، فإذا نحن أحيينا معاني الإيمان والإسلام تيسر لنا إحياء ما سواهما مما أمر به الإسلام، ومن ذلك حماية البلد والولد والمال والعِرض، وعلمنا من ذلك أن الله تعالى أحق أن يُرضى وأحق أن يُحَب وأول من يُقصد ومن إليه يُصمد، هذه معانٍ نَفهمها ونُفهمها مَن حولنا من أقارب وأباعد، وبذلك نحافظ على هويتنا الإسلامية وقيمنا الروحية، ويكون لنا شأن بين الأمم؛ لأن من ليس له ماضٍ فيحافظ عليه، ليس له حاضر يشيد به، ولا مستقبل يطمح إليه.
جعل الله عامنا سعيداً مباركاً، وكل عام وأنتم بخير.
«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .