5 دقائق
تزكية النفس
التزكية تعني الطهارة والنقاء، كما تعني النماء والبركة، ولها استعمالات كثيرة، فإذا أضيفت إلى النفس فتعني طهارتها من العيوب التي تُدنِّسها، وهذا ما أراده الذكر الحكيم من العبد المسلم، حينما حضَّ على تزكية النفس في غير ما آية، كقوله سبحانه: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}، فقد أقسم القرآن الكريم بأحد عشر قَسَماً على هذه النفس البشرية التي هي أعجب مخلوقات الله تعالى، وأشار إلى أن تزكيتها أو تدنيسها بيد العبد سعياً وكسباً، فمدح المزكين لها، وذم المُدسِّسين لها، أي المُخفين لها بالفجور والعصيان، وكرر ذلك في آية أخرى يقول فيها الحق سبحانه وتعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى}، وفي ذلك إشارة إلى أن المرء هو الذي يطوِّع نفسه للخير فيفوز، أو الشر فيهلك، فعلى العبد أن يسعى جاهداً لتزكية نفسه بما يرقِّيها للمعالي التي تنجيه في الدنيا والآخرة، إذ لولا أن العبد يقدر على ذلك بتوفيق الله تعالى لما أسند الفلاح بتزكيتها إليه.
ومعلوم أن تزكية النفوس أصعب من علاج الأبدان وأشد؛ لأنها جامحة إلى الشهوات واللذات العاجلة، غير عابئة بالآجلة، ولذلك تكون عدوة للروح الطامحة للمعالي والخيرات، الناظرة للمآلات، كما يروى عنه، صلى الله عليه وسلم: «أعدى عدوِّك نفسك التي بين جنبيك»، ومن هنا جاءت الأوامر والنواهي في شأن تسخيرها للطاعة والخير، وعدم الامتثال لما تأمر به من الشر، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً}، وقوله سبحانه: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، للدلالة على وجوب تزكية النفس مما قد يوردها المهالك من حيث لا تشعر، فإن للنفس دسائس خفية، قد لا يفطن المرء لها فلا يفلح في تزكيتها، فمن ذلك؛ استحقار الذنوب، فلا يراها شيئاً بجنب عفو الله تعالى، وهذا وإن كان صحيحاً في الجملة، إلا أن الله تعالى أخفى رضاه في طاعته، كما أخفى غضبه في معصيته، فلا يدري المرء أي طاعة ترقِّيه لمراتب الرضا، أو أي معصية تهلكه، فكان عليه الابتعاد عن المعاصي جملة، ومن هنا ورد قوله، صلى الله عليه وسلم: «فما أمرتكم من شيء، فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم من شيء فاجتنبوه»،
ومنها استثقال الطاعة أو التهاون بها، اتكالاً على رحمة الله تعالى وغناه، وهذا وإن كان صحيحاً على العموم، إلا أنه لا يصح بإطلاق؛ لأن الله تعالى أمر بطاعته قدر المستطاع، وعسى الله تعالى أن يقبل هذه الطاعة إذا كانت موافقة للشرع وخالصة لوجهه سبحانه، لذلك كان السلف يهتمون بقبول العمل أكثر من اهتمامهم بالعمل،
ومنها الإعجاب بالعمل، وهذا يؤدي إلى بطلانه؛ لأنه يكون متمَنِّناً على الله تعالى بعمله، وهو سبحانه غني عنه، وإنما العمل لنفع المرء لا لنفع الله تعالى.
ومنها الرياء والسمعة في العمل، وهذا يعني أنه لم يرد به وجه الله تعالى، وقد أخبر الحق سبحانه أنه لا يقبل من الأعمال إلا ما كان صالحاً، أي على وفق السنة، ويرضاه، أي غير مقرون بشائبة رياءٍ أو سمعة.. إلى غير ذلك من دسائس تمنع من تزكية المرء نفسه.
وأجلُّ ما ينفع في التزكية أمور: فمنها دوام المراقبة لله تعالى، فإنها البرهان الذي لا تقدر النفس على تخطيه فعل ما لا ينبغي أو التقصير في ما ينبغي.
ومنها دوام ذكر الله تعالى بأنواع الذكر المختلفة، أو ما تيسر للمرء المحافظة عليه؛ فإنه يطمئن القلب بالرضا عن الله تعالى، فيورثه أُنساً به ومحبة له، ويكون المرء جليس ربه سبحانه.
ومنها مجالسة الأخيار، فإنها دواء للقلوب المريضة، وناهضة للقلوب الفاترة، لما جُبل عليه المرء من التأثر بالجليس.
ومنها قراءة سِير الأخيار على مر الأعصار؛ فإن السِّير جند من جنود القلوب التي تطوي المسافات، ويكون لها التأثير المباشر بالمحاكاة.
وليكثر المرء من دعاء النبي، صلى الله عليه وآله وسلم: «اللهم آتِ نفسي تقواها، وزكّها أنت خير من زكاها، أنت ولِيُّها ومولاها».
«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.