الحكاؤون سوف يحكمون العالم
يقول المثل القديم لسكان أميركا الأصليين إن الذين يسردون القصص سوف يحكمون العالم. وفي أحيان أخرى، يُنسب هذا المثل لفيلسوف الإغريق المعروف أفلاطون، قوله: رواة القصص سوف يحكمون المجتمع!
وهنا نتساءل: هل للقصص هذا التأثير القوي على صيرورة المجتمعات؟ وهل يتبوأ الرواة أو ساردو الحكايات هذه المكانة المرموقة في العالم؟
تبادرت إلى ذهني أسئلة كثيرة وأنا أتصفح كتاب «العاقل» للكاتب يوفال نوح هراري الذي تُرجم إلى اللغة العربية وخمس وأربعين لغة مختلفة، حيث يتحدث الكاتب عن تاريخ مختصر للنوع البشري بأسلوب قصصي، بالإضافة إلى ذلك يشرح في كتابه نظريات عديدة عن تطور اللغة عند هؤلاء «العقلاء» ويقصد الجنس البشري، وتقول إحدى نظرياته إن بداية تطور اللغة انطلقت كوسيلة لتبادل المعلومات عن العالم. كما تم استخدام مصطلح «تبادل النمائم»، بمعنى آخر أي أن الإنسان القديم استخدم النميمة كوسيلة اتصال لا أكثر. هناك من يؤيد هذه النظرية وهناك من يعارضها أيضاً، وما أطلق عليه الكاتب «الثورة الذهنية» أكسب الإنسان العاقل القدرة على الحديث عن الخيال، ومن هنا بدأ بنسج الأساطير والحكايات والخرافات.
من المعلوم أن تقنيات السرد في عصرنا الحديث تغيرت وأصبح مَنْ يملك المحتوى هو الذي يتحكم في المجتمعات، فهل يمكن أن نقول مع المثل الأميركي أو قول أفلاطون إن الذين يملكون المحتوى هم الذين سوف يحكمون العالم؟
مجرد سؤال يقودنا إلى أن أهمية المحتوى برز في جميع المجالات التنموية والفكرية، وكذلك الاقتصادية والسياسية، وأصبحت المنظمات والشركات الكبرى تحلق في فضاء الإعلام الالكتروني بكل أنواعه، بما تمتلك من محتوى ضخم وقدرة تقنية حديثة على تقديم المعلومات من أجل الوصول إلى الجمهور بطريقة مبتكرة. ومن هنا تأخذ أهميتها وسبقها وقوتها. يمكننا القول، على سبيل المثال، إن شبكات إعلامية تنفق أرقاماً فلكية حتى تؤسس لها منصة رقمية تقدم فيها محتوى شيقاً للمشتركين من جميع فئات المجتمع، بمقابل مادي زهيد، وأفضل مثال على ذلك شبكة «نتفيلكس» الرقمية التي أنفقت العام الجاري نحو 15 مليار دولار لإنتاج محتوى أصلي تقدمه للمشاهدين، وأصبحت بفضل ذلك تتحكم في عالم التطبيقات التلفزيونية والسينمائية في هذا الفضاء الرحب، بفضل أسلوبها وطريقتها في تقديم المحتوى بصيغة احترافية ومبتكرة للمشاهدين المتعطشين للحكايات والقصص. وهكذا صنعت الفارق، وأطلقت صفارة المنافسة بين كبريات الشركات العالمية مثل «ديزني» و«تايم وورنر» لإطلاق منصات رقمية متطورة ومنافسة «نتفيلكس» على عرش الإعلام الجديد.
الحقيقة الساطعة في عصرنا أن القراء والمشاهدين والمستمعين أيضاً مستعدون لدفع الأموال والاشتراكات من أجل الحصول على قصة أو حكاية جيدة. لهذا السبب أصبح المحتوى صناعة رائجة في عصرنا الحديث.
لكن يبقى السؤآل: أين أصبح موقع الذين يسردون القصص بالطريقة التقليدية ويقدمون المحتوى بصيغته القديمة؟ هل لا يزال الكتُاب والمحررون والإعلاميون يحكمون المجتمعات ويؤثرون في الرأي العام ويساهمون في صنع السياسات حسب المثل الأميركي القديم أو مقولة أفلاطون؟
رغم قدرتهم الكبيرة على التأثير فإنهم أصبحوا ضمن منظومات أكبر تتحكم بهم، حيث يتضاءل دور الفرد مع تطور التقنيات وبروز الشركات العابرة للقارات، ومع خوض الدول هذا المعترك وإيمانها بقوة المحتوى، أصبح العالم يتوجه إلى وادي السيلكون قبلة التكنولوجيا الحديثة.
يقول صاحبي: تزيد القصص من اهتماماتنا، وتدفعنا إلى بناء علاقات خاصة مع الشخوص ونتأثر بهم. لايزال لرواة القصص والحكايات مكانة مهمة في المجتمعات، أليس كذلك؟
قلت له: لا تعليق.
jamal.alshehhi@gmail.com
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.