ولد الهدى
لقد كان أمير الشعراء ملهماً - كعادته - لاسيما حينما أنشأ قصيدته الهُمزية الغراء التي يقول في مطلعها:
وُلِـدَ الـهُـدى فَـالكائِناتُ ضِياء * وَفَـمُ الـزَمـانِ تَـبَـسُّـمٌ وَثَناءُ
الـروحُ وَالـمَـلَأُ الـمَلائِكُ حَولَهُ * لِـلـديـنِ وَالـدُنـيـا بِهِ بُشَراءُ..
وفي هذه القصيدة الغراء يقول:
يوم يتيه على الزمان مساؤه * وصباحه بمحمد وضاءُ
فالهدى الذي كانت البشرية، قد افتقدته بضياع الديانة الحنيفية ملة إبراهيم، عليه السلام، وحلت الوثنية محله، عادت بشائر رجوعه بهذه الولادة المباركة، التي كان معها آياتٌ بينات على أن الله قد أراد بالبشرية خيراً، فحُرست السماء ورجمت الشياطين، وتساقطت شرفات كسرى، وخمدت نار فارس.. إلى غير ذلك مما ورد في السنّة، وتناقله أصحاب السير، وهو ما أشار إليه الحق سبحانه بقوله: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ}، والمجيء كان بالبشرية والرسالة التي تضمنها الكتاب المبين، ولذلك كانت بشرية الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، محاطة بعناية ربانية فاقت بشرية غيره، فكان بأعين الله تعالى، وإيوائه وتأديبه وحفظه وعصمته، بل كانت نشأته الجسمية ليست كغيره، فكان، صلى الله عليه وآله وسلم، «يشِب في اليوم شباب الصبي في شهر، ويشب في الشهر شباب الصبي في سنة»، وقد أخبرنا الحق، سبحانه وتعالى، أن رسوله المصطفى، عليه الصلاة والسلام، جاء بالهدى، وذلك بقوله سبحانه: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا}، وقال جلّ وعزّ: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}، في آيات أخرى كثيرة، ولذلك كان يقول من يؤمن به: «أشهد أنك رسول الله، أرسلك بالهدى ودين الحق».
وقد كانت ولادة الهادي الأمين، صلى الله عليه وآله وسلم، محل اعتزاز عنده، فكان يصوم يوم ولادته، وكان الصحابة يعرفون فضل ذلك اليوم، فهذا عمه العباس، رضي الله عنه، يستشعر ذلك ويستأذن النبي، عليه الصلاة والسلام، أن ينظم ذلك شعراً، فيقول له النبي، صلى الله عليه وآله وسلم: «قل لا يفضفض الله فاك»، فقال العباس:
من قبلها طبت في الظلال وفي * مستودعٍ حيث يخصف الورقُ
ثم هبطت البلاد لا بشرٌ * أنت ولا مُضغة ولا علقُ
إلى أن يقول:
وأنت لما وُلدت أشرقت الأرض وضاءت بنورك الأفقُ
فنحن في ذلك الضياء وفي الــنــــــــــــــــور وسبل الرشاد نخترقُ
ولقد كانت هذه الولادة المباركة نذارة شؤم للكهنة والمنجمين الذين كانوا يسترقون السمع، ويلبّسون على الناس، فلم يقدروا بعدها على شيء، كما أخبر القرآن الكريم عنهم بقوله: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا}.
ولهذا كان لهذه الولادة حضور في كتب الحديث والسير، فألفوا فيها المؤلفات الكثيرة، كالحافظ صلاح الدين خليل بن الكيكلدي العلائي ت749هـ، والحافظ ابن كثير 774هـ، والحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي ت842هـ الذي ألف كتابه الكبير «جامع الآثار في مولد النبي المختار»، ويقع في ثمانية مجلدات، والحافظ ابن حجر العسقلاني ت 852هـ، وابن حجر الهيتمي الفقيه 974هـ، والحافظ السخاوي 902هـ، والحافظ السيوطي 911هـ، وغيرهم كثير يعدون بالمئات، من المتقدمين والمتأخرين والمعاصرين، كل ذلك لما ينبغي على المسلمين معرفته من حال نبيهم المصطفى، صلى الله عليه وسلم، من ولادته إلى بعثته ودعوته ودولته ووفاته، حتى يعرفوه حق المعرفة، فيوقروه كما أمرهم ربهم سبحانه، ويحبوه محبة توجب لهم مرافقته، ويتبعوه اتباعاً يوجب لهم شفاعته. وينبغي أن تكون هذه السيرة العطرة التي ألفت هذه المؤلفات الكثيرة فيها محل عناية الآباء بالأبناء، والمدرسين بطلابهم، والوعاظ بمستمعيهم، والكتّاب بقرائهم، حتى ينشروا قيم هذا النبي العظيم في الرحمة والتسامح والتواضع والأخلاق العظيمة، فيتأسوا بها، ويسيروا على هديه، فيعم الأرض محبة وسلاماً وإخاء وتعاوناً، ليس فقط في يوم أو شهر مولده، صلى الله عليه وسلم، بل في العام كله، فإن السيرة جزء من السنّة. وبالله التوفيق.
«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه.