حرب طروادة أو اجتماع عمل
كنت أتصفح في أحد الأيام حسابي الشخصي في تطبيق «إنستغرام»، لمتابعة ما هو جديد في هذا العالم، وكذلك لأعذب نفسي أثناء التجول الافتراضي في حسابات المسافرين! وبينما أنا منغمس في ذلك، وإذ بي أقع على مقطع قصير نشرته إحدى المؤسسات في الدولة، لاجتماع عمل عادي، لكن ما هو غير عادي، هو الموسيقى الحربية التي كانت تشتغل في الخلفية.
فلو أغمضت عينيك للحظة، واستمعت إلى الموسيقى فقط، وقيل لك أن تتخيّل ماذا ترى؟ فبلاشك ستقول إنك رأيت مبارزات دموية، وجيوشاً تتطاحن في ما بينها، وهذا يقع صريعاً على الأرض، وذاك ينجد صديقه الذي يصرخ من شدة الألم، أو أنك قد تتخيل شخصاً يقف على حافة جبل شاهق برجْل واحدة فقط، بعد رحلة شاقة استغرقته شهوراً طويلة! ما أن تفتح عينيك حتى تستمع للموسيقى نفسها، لكن بعد أن أقحمت في مشهد بريء كل البراءة، خلافاً لما تخيلته؛ فترى مدير الاجتماع بالتصوير البطيء يلوح بيديه حاملاً قلم حبر أزرق، وهو ينظر إلى موظفيه متفوهاً ببعض الكلمات التي يخيل إليك من الموسيقى والهيئة التي تم إنتاجها بأن المدير يعلن شن الحرب على الكراسي والأقلام القذرة والطاولات البرجوازية! ثم يصفق الحضور بكل حرارة لهذا المشهد العظيم، والموسيقى تصدح في الخلفية! للأسف مضت مؤسسات كثيرة على تقليد هذا النمط في الإنتاج، لتوثيق كل اجتماعاتها وفعالياتها.. التصوير البطيء نفسه، والموسيقى نفسها كلها تشبه بعضها، ولا نرى أساليب جديدة لإبراز هذه الفعاليات إلا ما ندر، علماً بأن المكتبات الصوتية تحوي الملايين من الألحان المختلفة التي تناسب كل حدث. لكن هي العادة التي حملت أغلب المنتجين لتقليد الغير، حتى إن الأمر أصبح شبه قانون، بأن يكون هناك تصوير بطيء وموسيقى فيلم Gladiator في الخلفية! الموسيقى لها روحها ولها كيانها، وهي لا تقبل أن يزج بها في كل محفل، بل تبحث عن شريك حياة مناسب لها، فالموسيقى العنيفة والصاخبة لا يمكنها أن تمتزج مع مشهد لاجتماع عمل ودي ليكون شريك حياتها، كما لا يمكن الجمع بين أغنية بارني ومشهد قتال عنيف!
تساعد الموسيقى والمؤثرات الصوتية المنتجين على إيصال المشاعر الحقيقية داخل المشهد، وكأنك تعيش اللحظة معهم، وهذا ما أثبتته الدراسات النفسية حول تأثير الموسيقى في البشر، ففي إحداها قام موقع psychology today بدراسة حول كيف يمكن أن تؤثر موسيقى الأفلام في مسار القصة، وقد اقتطع خلالها جزءاً من فيلم Minority Report، ويظهر في المشهد جاك (توم كروز) يطوق أغاثا بيديه، وهما يشهدان فوضى داخل مركز تجاري كبير، والناس تتدافع في ما بينها هرباً، ويمكنك سماع صراخهم والمكبرات الصوتية تحذرهم من خطر ما، بينما تشتغل في خلفية المشهد موسيقى تستخدم لأفلام «الأكشن».
عُرض هذا المشهد على 245 طالباً جامعياً شملتهم الدراسة، وقد طلب منهم أن يصفوا المشاعر التي أحسّوا بها عند مشاهدتهم هذا المقطع، فكان رد الأغلبية أن المشهد مخيف، ويضعك في حالة من التوتر والترقب. بعدها اقتطع الفريق القائم على الدراسة كل أصوات الجلبة داخل المركز التجاري، مع الإبقاء على الموسيقى فقط، فكانت النتيجة أن الطلبة لاحظوا أن المشهد أصبح غير مخيف، بل مال لأن يكون أكثر رومانسية، خصوصاً عند مشاهدة جاك وأغاثا يطوقان بعضهما بعضاً بأيديهما.
الموسيقى والمؤثرات الصوتية يمكن أن تكون أداة فعالة للتأثير، وهذه المسؤولية تقع على عاتق المنتجين لإيصال رسالتهم، والمشاعر التي يريدون أن يؤثروا بها في الناس، باختيار ما يتناسب من الألحان مع ما يتناسب من المشاهد.. وهنا أضعهم بين هذين الخيارين ليقرروا: هل ما كنت أراه يمثل: حرب طروادة أو اجتماع عمل؟
Ahmed_almadloum
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .