مفهوم الحرية الدينية
الحرية الدينية مصطلح حديث ومفهوم سابق، أما المصطلح الحديث فقد وقع فيه لبْسٌ كبير، لاختلاف ثقافات المرددين له، فبينما يفهمه كثير من أهل الديانات أن للإنسان أن يختار لنفسه ديناً مّا، أو أن يعيش بغير دين؛ لأن الدين لم يعد معياراً أساسياً في حياتهم، فكثُر عندهم الإلحاد، والتنقل بين الديانات، فلا يجدون في ذلك حرجاً ولا يزعهم عنه أحد لذلكم المفهوم الذي ساد بينهم، ولله في ذلك حكمة، ولعلها أن يهتدي من كتب الله له الهداية فلا يجد معارضاً، ولا يخاف على نفسه ومكانته.
أما مفهوم الحرية الدينية عندنا معاشر المسلمين فهو أن من لم يكن مسلماً فلا حرج عليه أن يبقى على دينه، أو أن يدخل في الدين الذي ختم الله به الديانات ونسخها به، ولم يقبل ديناً سواه، وهو دين الإسلام الذي قال الله تعالى عنه: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}، أي الدين الذي يُدان الله تعالى به هو هذا الإسلام الذي اختُصَّت به أمة محمد عليه الصلاة والسلام، وهو الدين الذي قال عنه الحق سبحانه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، أي لا يقبله الله تعالى لأنه ناسخ لما قبله، ومعلوم أن الإسلام في جوهره هو دين الأنبياء أجمعين، إبراهيم فمن دونه من الرسل عليهم جميعاً الصلاة والسلام، كما قال الله تعالى على لسانه: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ}، وهو الذي سمانا مسلمين، كما قال جل شأنه: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ}.
ومع أنه الدين الحق الذي لا يقبل الله ديناً سواه، فإن من لم يكن من أهله أصلاً بأن لم يولد بين أبوين مسلمين أو أحدهما، أو لم يكن قد دخل فيه اختياراً، فإنه أبقى للمرء حرية التدين به أو عدمه، كما قال جلّ ذكره: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}، ذلك لأن الإسلام احترم العقل البشري، وجعل له حرية اختيار الصالح أو ضده، ليترتب على ذلك جزاء الاختيار من ثواب أو عقاب، ومع ذلك فقد بعث رسولاً يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم، وهو الرسول الخاتم سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام؛ لئلا يقول ذو العقل: {مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ}، ولتقوم العدالة الإلهية بين العباد بالقسط.
وتأصيلاً لهذا المفهوم جاءت نصوص كثيرة في الكتاب العزيز تقرره أيَّما تقرير، كما في قوله سبحانه: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}، وقوله لنبي الرحمة: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}، وهو خطاب إرشاد وتوجيه لنبيه ومصطفاه، الذي كان يود أن يُخرج الناس من الظلمات إلى النور، وينقذهم مما أعده الله لمن خالفه من العذاب، وذلك لما جُبل عليه من بالغ الرأفة والرحمة، فأرشده أنه لا يملك الهداية، وأنها بيد الله وحده، وأن عليه واجب البلاغ فقط، وكل هذا هو تعليم لأمته والمبلغين عنه من ورثته العلماء والدعاة.
هذا هو مفهوم حرية التدين في الإسلام، وليس ما قد يفهمه بعضهم من الخروج من الدين الذي نشأ عليه أو دخل فيه، فذلك ما لا يقبل في شريعة الإسلام؛ لما في ذلك من استفزاز المجتمع المسلم واستخفاف بدينه، فإن الحرية الشخصية لا تنتهك حق الجماعة أو القوانين والأنظمة السارية، فينبغي أن يفهم الناس هذا المفهوم لحرية التدين، ولا يتعدوا حدود الله تعالى أو النظام العام في البلاد الإسلامية.
وحفاظاً على مصلحة المسلم وحق الجماعة فقد جعلت الشريعة الدين أول كلياتها الخمس، وتسمى الضرورات الخمس التي أقامت لحفظها حدوداً زاجرة، وهي الدين والنفس والعرض والعقل والمال.
فعلى المسلم أن لا يغتر بالمفهوم الخاطئ الذي قد يروجه من لا يعرف الإسلام، وليقل دائماً ما دعا به يوسف عليه السلام: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}، وما قاله السحرة الذين آمنوا برب موسى وهارون: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ}.
«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.