التَّحابُّ في الله
يعيش كثير من الناس في دنياهم بحالة من الفصام والخصام، فتضيق بهم الدنيا بما رحبت، ولا يجدون للحياة طعماً، ولا للسعادة معنى، ولو أدركوا أن مفاتيح الأنس والسعادة بين أيديهم لفتحوا بها مغاليق الحياة المرتجَة؛ إنها المحبة لله وفي الله، التي تجعل الدنيا جنة موصولة بجنة الآخرة، كما يرشد لذلك الحديث القدسي «المتحابون في جلالي لهم منابر من نور، يغبطهم النبيون والشهداء»، ذلك جزاؤهم في الآخرة التي هي الحياة الباقية، ويشهد له حديث السبعة الذين يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، فمنهم «رجلان تحابَّا في الله، اجتمعا عليه، وتفرقا عليه»، أي لم يكن تحابهم لأجل دنيا، بل لأجل ما في أحدهم من الخير والصلاح اقتضى أن يحبه.
وفي هذه الأحاديث دليل على أن لهؤلاء العباد منازل شريفة عظيمة في الآخرة، ولا يلزم من ذلك أنْ يكونوا أفضل من الأنبياء، وإنما أُريد بذلك بيان فضلهم وشرفهم عند الله تعالى، كما قاله العلماء.
ولو لم يكن من مقصود هذا التحاب إلا هذا الجزاء العظيم، لكان جديراً بأن ينشده كل عاقل، ويسعى إليه من تأتى له ذلك، غير أن هناك فوائد عاجلة، فمنها الأنس بذلك المحبوب، بحيث يجد فيه سلوته وأنسه وسعادته، فيجد عنده عوناً على الحياة فيستقيم باستقامته، لأن الاقتداء بالمحبوب جِبِلة إنسانية، فيتأثر به سلوكاً صالحاً، وأخلاقاً كريمة، ومحبة للناس، وعوناً لهم، وإيثاراً بحظوظ الدنيا، وسلامة قلب، وثقة بالله وتوكلاً عليه.. كما يشير إليه حديث الجليس الصالح الذي هو كحامل المسك، «فإما أن يُحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تشم منه رائحة طيبة»، ولذلك ندب النبي، عليه الصلاة والسلام، اختيار الجليس، فقال: «لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي»، لأن الصحبة مبدأ التأثر، وعنوان المحبة، فالذي ينبغي البحث عنه هو ذلكم الذي ينبغي أن يحب في الله، فإن كثيراً من الناس لا يجدونه، وقد يكون أقرب إليهم مما يتصورون.
فأول أولئك أقربوك من أبوين، وأجداد وجدات، ثم إخوة وأخوات، ثم أعمام وعمات.. فإن هؤلاء إن كانوا على مقام الاستقامة، فإن محبتهم في الله أعظم من غيرهم، لأن المحبة الجبلية أو الشرعية حاصلة، فإذا أضيف إلى ذلك محبتهم للمعنى الذي أشار إليه الحديث، وهو «جلال الله»، لكون حقهم مقروناً بحق الله تعالى، فتستشعر ما أعد الله لك في امتثال توصيته بهم في غير ما آية، وأكثر من حديث، فتقربت بذلك لوجهه سبحانه، زائداً على حق الأبوة أو الأمومة أو القرابة، كان ذلك أيسر مطلوب، ولكن لا يفطن له الكثير.
وثاني أولئك هم أهل الخير والصلاح الذين يعلِّمون الناس الخير، ويدلونهم عليه، بأقوالهم أو بسمْتهم الحسن الذي يكون كتاباً منظوراً يُذكِّر بالله تعالى، ويهدي إليه، وهم الأولياء الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؛ لما هم عليه من الإيمان والتقوى، وهم الذين لا يتفاخرون ولا يتظاهرون ولا يرون أنفسهم شيئاً مع إخوانهم المؤمنين؛ لرؤية القصور في أنفسهم في جنب الله تعالى، مع عظيم حقه عليهم، فمحبة هؤلاء لاشك تكون سبباً لذلكم الفضل العظيم في الآخرة، على ما لها من أثر كبير في استقامة المرء وصلاحه.
وثالث أولئك هم ولاة الأمر الذين ولاهم الله تعالى أمر عباده، فكانوا رحماء بخلقه، محسنين إليهم، عاملين بمصالحهم ونفعهم، فإن هؤلاء هم أول السبعة الذين يظلهم الله تعالى تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، ولذلك كان هدي الإسلام بإجلالهم جلياً، كما في حديث أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه: «إن من إجلال الله إكرام ذي الشَّيْبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه، والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط».
وغير هؤلاء كثير ممن لهم حال مع الله ودالة عليه سبحانه، فإن محبتهم تثمر تلك الثمار العظيمة، ذلك كله لأن ديننا الإسلامي دين الحب، وفيه كمال الإيمان، كما قال، صلى الله عليه وسلم: «من أحب في الله، وأبغض في الله، وأعطى لله، ومنع لله فقد استكمل الإيمان».
«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .
ندب النبي، عليه الصلاة والسلام، اختيار الجليس فقال: «لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي».