نمط الحياة بعد كورونا
عما قريبٍ - إن شاء الله تعالى - سيرحل عنا هذا الطائف الثقيل المشؤوم - غير مودَّع ولا مأسوف عليه - وسنستعيد حريتنا في العمل والتنقل واللقاءات والاجتماعات والزيارات والتواصل الأُسري والمعرفي وغير ذلك، سنستعيد حريتنا السليبة التي صادرها هذا الوباء لأشهر وكأنها عدد سنين، وظنُّنا بالله خيرٌ أن ننسى هذا الألم وأن يتحول إلى أمل كبير عريض، أن ننسى الوحشة ونعود للألفة، أن ننسى الجفاء ونعود للوفاء، أن ننسى الفُرقة ونعود للألفة، ذلك هو الأمل والظن بالله، وليس على الله بعزيز، فنسأل الله تعالى أن يحوّل حالنا إلى أحسن حال..
- هناك أمورٌ لا ينبغي أن ننساها؛ لأن نسيانها يعني أننا لم نعتبر ولم تؤثر فينا المؤاخذة الإلهية. |
وهناك أمورٌ لا ينبغي أن ننساها؛ لأن نسيانها يعني أننا لم نعتبر ولم تؤثر فينا المؤاخذة الإلهية، فكان لا بد أن نظل ذاكرين أموراً حتى تكون جزءاً من حياتنا المستقبلية..
فلا ينبغي أن ننسى الحق الإلهي علينا في وجوب التعرف عليه في السراء كما كنا في الضراء، فنظل له ذاكرين، ولنعمائه شاكرين، ولحقه مؤدين، وبشرعه عاملين، فقد عرفنا قيمة نعمة الأمن النفسي لما عايشنا خوف الوباء، وهاجس هجومه على كل أحد، فأذهب عنا طيب الحياة وكنا كما قال الشاعر:
ولولا المزعجات من الليالي/ لما ترك القَطا طيبَ المنام
وعرفنا قيمة الصحة فلا نعرضها لما يُخل بها من تعرضٍ للعدوى أياً كان نوعها، فما أصاب المجتمعات - بعد قدر الله - إلا بسبب التساهل في أخذ الاحتياطات من العدوى.
وعرفنا قيمة أُنسنا في بيوت الله ونحن نرتادها فنجدد الإيمان، ونتزود بالتقوى، ونقوِّي أواشج القربى والتلاحم الاجتماعي والتعرف على أحوال بعضنا فنتواسى ونتشارك الأفراح والأتراح.
وعرفنا قيمة الأنس في الأعياد واللقاءات العائلية والاجتماعية ومعايدة شيوخنا الأجلاء فيزداد تلاحم الشعب بالقيادة، ويتجدد الولاء، وتتوثق البيعة.
وعرفنا قيمة الذهاب إلى الأعمال ومزاولة أدائها مع لقاء الناس وقضائها مباشرة.
عرفنا قيمة هذه الأشياء، وغيرُها كثير عندما فقدناها؛ لأن النعمة لا تعرف إلا عند فقدها، وكما قالوا: «والضِّد يُظهِر حسنه الضدُّ»، فعلينا أن نكون ذاكرين لكل ذلك لنشكر الله تعالى على النعمة، ونشكر ولاة الأمر على ما بذلوا من مِنَّة، ونحافظ على النعم بهذا الشكر كما يروى عن سيدنا علي رضي الله تعالى عنه:
إذا كنت في نعمة فارعَها/ فإن المعاصي تزيل النعمْ
وحافظ عليها بشكر الإله/ فإن الإله سريع النِقم
وعلينا أن نغير نمط حياتنا في كل شيء ابتداءً من الذات والأسرة، فلا نعطي لأنفسنا مُناها في كل ما لذ وطاب من التوسع في الملذات، والإسراف في النفقات، والصرف في غير الحاجات، ولا في الأسفار غير الضروريات؛ لما في ذلك من ترشيد للنفقات، وصون للنفس عن التبعات غير المرضيات.
والأسرة كذلك عليها أن تتعاون مع ربها؛ لأن المصلحة مشتركة، فالأسرة جسد واحد تتفاعل مع بعضها نفعاً وضراً، فما كان يصلح في الأمس لم يعد صالحاً اليوم، وأهمُّ ما ينبغي للأسرة أن تحافظ عليه ما استفادته من الحميمية الأسرية التي اكتسبتها في دوام اللقاء والتفاهم الذي كان سيد الموقف غالباً، والحرص على ما ينفع ودفع ما يضر، ومن ذلك عدم سماع الأصوات التي لا تحب للأسر الصالحة خيراً، فإن وجدت آذاناً صاغية لم تتورع عن المشي بالنميمة وتوليد الضغينة، فقد كانت هذه الفترة الحميمية مفوِّتة لكثير من تلك الأصوات غير الصالحة، فليستمر هذا التفويت إلى ما لا نهاية.
وإذا كان التراحم والتعاطف من الجميع للجميع في فترة الوباء هو الخُلق الأبرز على مدى هذه الفترة فلنحافظ عليه في مستقبل حياتنا؛ فإنه من أجلِّ الأخلاق الاجتماعية التي ينال بها المرء جنة عرضها السماوات والأرض كما ورد في الحديث عند مسلم: «لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم». وروى أصحاب السنن من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا أهل الأرض يرحمكم من في السماء».
اللهم كما تراحمنا فارحمنا فأنت أرحم الراحمين، وأنت أهل التقوى وأهل المغفرة.
«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.