الأمُّ التي لا تُعوَّض
نعيش في هذه الدنيا نستقبل أمةً ونفارق أخرى، فنفرح بمن نستقبل ونأسى على من نفقد، ولا يُوازى أي فرحٍ بالفقدِ والأسى، ولا يستوي الأسى على أيٍّ من كان الأسى على الأم، نعم لا يستوي أسى فقدها بفقد أي محبوب آخر، لا لما لها من الفضل والحق فحسب، بل لما يُفقد بفقدها؛ فبفقدها يفقد الولد الحنان والحب والإيثار والتعلق والدعاء والأمل الذي لا يوجد إلا عند الأم، لأن الأم تعيش لأجل ولدها، همها لولدها، حبها لولدها، حزنها على ولدها، حياتها لولدها، مالها لولدها، فهي لا تعيش إلا لتسعد بسعادة ولدها، هذه الأم إذا فقدت فقد الولد سر حياته، فأنَّى يعوض بذلك؟!
الأم هي الدنيا التي يعيشها الأبناء والبنات، فهي مصدر سعادة أولادها أياً كان قربهم أو بعدهم منها، فهي التي حملتهم وهناً على وهن، وكُرهاً على كره، وربتهم على تؤدة وعناء، ورعتهم حتى شبُّوا عن الطوق واعتمدوا على أنفسهم، وهي التي حدبت عليهم في صغرهم، ورعتهم في كبرهم، وهي التي أخذت بأيديهم إلى العلم والمعرفة حتى عرفوا الخير من الشر والضر من النفع، وامتازوا بالعلم عن الجهل، وهي التي تراهم في عينها رؤية القمر بهاءً وأُنسا، فمن يكُ كهذه الأم عند فقدها؟!
إن الأم هي ضياء الأولاد وريحانة الأحفاد، وهي مهجة الفؤاد، وسواد العين، وقلب القلب، ذلك لمن كان له قلب أحس بمعنى الأمومة الكثيرة الكبيرة، وما ذكر هو بعضها.
وإذا كان الشاعر علي بن جبلة الطوسي يقول في الأمير أبي دُلَف:
إنما الدنيا أبو دُلفٍ... بين مغزاه ومحتضره
فإذا ولىَّ أبو دُلف... ولَّت الدنيا على أثره
فإن هذا الوصف لا يصدق إلا على الأم، فإنها هي الدنيا كما أنها باب الجنة العريض، فمن أدركها ولم يحظ بدخولها بسبب أمه فإنه قد لا يدخلها بكثير عمله فضلاً عن قليله، ومع عدم قيام الولد بأخذ سبب دخوله ببرها، فإنها لو علمت أنه سيحرم دخولها بسبب ذلك لآثرت دخوله الجنة ولو بعقوقها، كما روى البخاري من حديث سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سبيٌ، فإذا امرأة من السبي قد تحلَّب ثديها تسقي، إذا وجدت صبياً في السبي أخذته، فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ قلنا: لا، وهي تقدر على أن لا تطرحه..».
هكذا هي الأم عرفها الولد أم لم يعرفها، فإذا عاش في كنفها وهو يعرفها بهذه المعاني ثم فارقته إلى الدار الآخرة وهو ينظر إليها فلا يقدر أن يفعل شيئاً لبقائها فكيف يكون حاله؟!
إن الأم هي مدرسة الحياة التي يعيشها أولادها، ولولاها لم يتذوقوا للحياة طعماً ولا معنى، ولينظر الولد لحال من لم يذق طعم الأمومة ممن حرمها صغيراً، فهل عوضته الرعاية المجتمعية - إن هو حظي بها - شيئاً من ذلك؟ كلا إنه يعيش متحسراً لفقدها طول حياته إذا كان قد عايش أترابه ممن حظوا بدفء الأمومة، فكيف بحال من تذوَّق هذه المعاني طول حياته، وما أصدق الشاعر القائل:
راحة الإنسان حياً * بين حضني والديه
فإذا ماتا أحالا * بشقى الدنيا عليه
نعم إن شقى الدنيا الحقيقي هو فقد الوالدين، الذي يكدر صفو الحياة، ويؤذن برحيل الولد بعدهما، ويحَمِّله تبعاتٍ ما كان يحملها في حياتهما.
إن الأم التي تفارق أولادها قد تكون عُوِّضت بأولادها ودارها وأحبائها جنات النعيم، وقد يبدلها الله تعالى داراً خيراً من دارها، ويكرمها في دار كرامته بما كانت عليه من فائض الرحمة المقتضية لرحمة الرحمن سبحانه، لأنه يرحم الرحماء كما صح به الحديث، ناهيك عما كانت عليه من صالح العمل، وتبتل العبادة، ودوام الذكر، والشَّيبة في الإسلام، وحسن الظن بالله جل وعز.. إلا أن الولد لن يعوَّض بشيء في هذه الحياة، فمن الذي يعوضه الحنان والدعاء والإيثار والوفاء والتضحية.. فهو الذي يبقى قلبه فارغاً، وجنابه هضيماً، وجناحه مهيضاً.. فأي مصيبة تصيبه أكثر من ذلك لولا أن يعوضه الله تعالى ثواب الصابرين المحتسبين..
إن ذلكم هو العزاء وهو السلوان الذي يجبر القلب الحسير، والجناب الكسير، الذي هو في الحقيقة رحمة من الرحمن الرحيم لمن أصيب بمثل هذا المصاب لمَّا علم الله تعالى حال الولد الذي يصبر ويحتسب، الولد الذي يعلم أن الموت حق على العباد لا مفر منه، وأنه لا يتأخر ولا يتقدم، وأن حقيقته هو انتقال من دار فانية إلى دار باقية، هي الحياة الحقيقية التي لا نفاد لها، فمن تأسى بذلك، وتأسى بمن مضى، وتأسى بموت خير الخلق صلى الله عليه وسلم، أدرك الأجر والسلوان، وعلم حقاً معنى «إنا لله وإنا إليه راجعون».
«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.