السلوك اللاحق وتفسير المعاهدات في القانون الدولي العام
يمثل تفسير المعاهدات واحدة من أهم وسائل تنفيذ المعاهدات والالتزام ببنودها. ويمثل في الوقت نفسه واحدة من أكثر المسائل التي تسبب اختلافاً بين الدول الأطراف في المعاهدة، وتؤدي بالتالي إلى توقف أو تعليق أو تعديل تنفيذ المعاهدة، أو بعض بنودها، وذلك لأن التفسير «نشاط فني، لا يمكن أن تلمَّ به قواعد أو عمليات» محددة.
ويعود السبب في ذلك إلى حقيقة أن المعاهدة، أو أي اتفاق آخر، ما هي إلا تسوية بين مواقف متفاوتة، الأمر الذي يدفع الأطراف المتفاوضة في سبيل التوصل إلى نص اتفاق، إلى محاولة استخدام نوع من الصياغة التي تكون مرضية لجميع الأطراف المتفاوضة، وذلك بصرف النظر عن كون هذه الصياغة في بعض الأحيان تحتمل أكثر من معنى، أو أنها غير دقيقة أو غامضة.
وبما أن تنفيذ المعاهدة يكون من جهات ودوائر مختلفة في الدول الأطراف، فإنه ليس من الضروري أن تتفهم هذه الجهات المناخ الذي تمت في ظله صياغة المعاهدة. وعليه تبدأ هذه الجهات في كل دولة طرف بالمعاهدة، بتفسير المعاهدة على النحو الذي يتوافق مع مصالحها وتوجهاتها، وقت تنفيذ المعاهدة، وليس وقت صياغتها.
هذا الوضع كثيراً ما يسبب اختلافاً بين أطراف المعاهدة حول تفسيرها، وبالتالي إلى اختلاف حول تنفيذ كل أو بعض بنود المعاهدة. وكذلك يثور خلاف بين الأطراف في بعض الأحيان، حول مدى ملاءمة أو وجوب تنفيذ بنود اتفاقية معينة، تمت صياغتها في ظل نظام قانوني أصبح، في الوقت الحالي، غير موجود أو أنه استبدل بنظام قانوني مختلف.
ولأهمية موضوع تفسير المعاهدات، أفردت اتفاقية فيينا لقانون المعاهدة لسنة 1969 المادتين 31 و32، لتوضيح الأحكام المتعلقة بتفسير المعاهدات، والتي تمثل ما استقر عليه العرف الدولي في مجال تفسير المعاهدات.
وفي هذا المقال، سنقصر حديثنا على دور السلوك اللاحق في عملية تفسير المعاهدة، إذ يمثل السلوك اللاحق لأطراف المعاهدة دليلاً قوياً على الفهم المشترك لأحكام المعاهدة بعد إبرامها، وكيفية تطبيقها.
إذ لا يمكن تجاهل هذا السلوك عند تفسير بنود المعاهدة المبهمة، وإعطاؤها معنى مغايراً للسلوك اللاحق لأطرافها عند تطبيقهم أحكامها.
ويقصد بالسلوك اللاحق: كل ما يصدر أو يقع من أطراف المعاهدة بعد إبرامها، والمتصل بموضوعها، سواء كان بالفعل أو بالترك. ويشمل هذا التصريحات والآراء الصادرة من المسؤولين، وإصدار وتداول الخرائط، وإصدار التشريعات والممارسات اليومية لمؤسسات الدولة إزاء مسألة متعلقة بموضوع الاتفاقية، بما في ذلك أحكام المحاكم، والسكوت عن مواقف معينة اتخذها طرف آخر في المعاهدة، أو القبول بتفسير أو أسلوب تنفيذ أحد أطراف المعاهدة لأحد بنودها.
ويمثل السلوك اللاحق لأطراف المعاهدة، بهذا المعنى، وسيلة مساعدة لتوضيح الكيفية التي فهم بها هؤلاء الأطراف أحكام المعاهدة وكيف طبقوها. وهو بهذا الدور يحتل منزلة متقدمة على الوسائل الأخرى المساعدة في التفسير، قد تصل إلى اعتباره التفسير الصحيح والدقيق للمعاهدة.
وفي هذا الشأن، أكدت محكمة العدل الدولية، بسياق حكمها في النزاع بين بوتسوانا وناميبيا، على سيادة جزيرة كاسيكيلي/سيدودو لسنة 1999، على موقف لجنة القانون الدولي من مسألة السلوك اللاحق، وعلى ممارسات القضاء الدولي بالاستعانة بالسلوك اللاحق في تفسير المعاهدات.
وحتى يكون السلوك اللاحق محل اعتبار في عملية التفسير، فإنه يجب أن يكون متكرراً على نمط متناسق ومتعارف عليه، ومقبولاً، ولو ضمنياً، من أطراف المعاهدة، ومعاصراً لإبرام الاتفاقية.
فإذا كان هذا السلوك قد بدأ بعد وقت طويل من إبرام المعاهدة، فلا يعتبر فهماً معاصراً لأحكامه، وبالتالي لا يكون له اعتبار في تفسير بنود المعاهدة، لأنه لا يتصور أن يكون معبراً عن فهم أطرافها لبنودها وقت إبرامها. وإنما من المحتمل أن يكون هذا السلوك قد تأثر بتغير السياسات أو الأهداف لدى أطراف المعاهدة. لكن هذا لا يعني أن السلوك اللاحق - الذي يقع من أطراف المعاهدة بعد فترة طويلة من الزمن - ليست له أي قيمة قانونية. فمثل هذا السلوك يمكن «استخدامه في إقامة الإغلاق على أحد أطراف المعاهدة»، إذا استوفى هذا السلوك شروط الإغلاق، أو قد يكون وسيلة لإثبات تعديل الاتفاقية بناء على هذا السلوك.
مستشار في القانون الدولي العام
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .
المعاهدة، أو أي اتفاق آخر، ما هي إلا تسوية بين مواقف متفاوتة.