مساحة حرة
إيجابيات وسلبيات استخدام مدونة السلوك
تلجأ الدول في بعض الأحيان إلى القبول بصياغة وثائق معينة تتضمن تفاهماً على مبادئ عامة، أو تعهداً بتوجيه سياسات دولهم بما بتوافق مع أحكام هذا التفاهم، أو وضع قواعد سلوك أو آلية عمل معينة للتعامل مع أمر ما.
فلا يتضمن هذا النوع من الوثائق أي التزامات قانونية متبادلة أو ملزمة، ويدخل بذلك في إطار ما يُسمى بالقواعد أو القانون السهل أو القانون قيد التكوين (Soft Law). وقد برز استخدام هذا المصطلح في العقود الثلاثة الماضية بشكل أكبر، ويطلق على طائفة من الوثائق المبرمة بين الدول أو الصادرة عن منظمات دولية، والتي لا تتضمن التزامات قانونية محددة وإنما تحتوي فقط على مبادئ توجيهية أو أحكام عامة أو توصيات أو إعلانات، أو تسجل تفاهماً معيناً أو أسلوب عمل أو قواعد سلوك معينة.
وتستخدم الدول هذا النوع من الوثائق في الأحوال التي تكون فيها صعوبة في التوصل إلى اتفاق ملزم، أو عندما تكون هناك حاجة إلى تحقيق مكاسب سياسية بتوصل إلى حل معين لمعضلة ما، دون الحاجة إلى الدخول في التزامات قانونية متبادلة.
ويتصور استخدام هذا النوع من الوثائق كذلك في الأحوال التي لا ترغب فيها الدول المعنية في إخضاع هذا التفاهم الذي تم التوصل إلية للإجراءات الدستورية المتبعة فيها. ومن الأمثلة على هذا النوع من الوثائق مجموعة المبادئ الدولية لحظر انتشار الصواريخ الباليستية، والتي تم إعلانها في 25/11/2002.
وقد ذكر الأمين العام السابق للأمم المتحدة، كوفي عنان، بمناسبة هذا الإعلان، أن هذه المبادئ هي وثيقة تطوعية ولا ترتب أي التزامات قانونية على الأطراف المشاركة فيها.
وبالمثل نصت المادة 19، من مدونة السلوك المتعلقة بقمع أعمال القرصنة والسطو المسلح ضد السفن في وسط وغرب إفريقيا لسنة 2013، على أن هذه المدونة لا تنشئ أي التزامات قانونية على أطرافها.
كذلك تلجأ الدول إلى هذا النوع من الوثائق غير الملزمة عندما يكون الموضوع المطروح لايزال غير واضح، أو لا يمكن تحديده بدقة، أو عندما يكون هناك اختلاف كبير على التفاصيل المتعلقة بالموضوع.
وتمثل المبادئ المتعلقة بحماية البيئة والحد من الانبعاثات الحرارية أو تلك المتعلقة بالسيطرة على تقنيات بعض الأسلحة، أو تلك المتعلقة بتنسيق التعاون الإقليمي لمكافحة أعمال القرصنة البحرية، أو تلك المتعلقة بالذكاء الاصطناعي من المسائل التي تفضل الدول في الوقت الحالي تضمينها في وثائق لا تتضمن أي التزامات قانونية محددة، وإنما تقتصر على تعهدات أدبية أو سياسية أو قواعد سلوك أو دليل عمل استرشادي.
وتبرز فوائد استخدام هذا النوع من الوثائق غير الملزمة في العلاقات الدولية في أنها تمثل مرحلة انتقالية بين حالة عدم وجود تنظيم وحالة وجود اتفاق يرتب التزامات قانونية متبادلة على أطرافه. كذلك من فوائد وجود مثل هذه الوثائق غير الملزمة أن الدول يمكن أن تستعين بالمبادئ التوجيهية فيها كقواعد مرجعية وتقوم بإعادة صياغتها وتضمينها في اتفاقات ملزمة أو تشريعات وطنية.
أضف إلى ذلك أن هذا النوع من الوثائق يُشكل مخرجاً في بعض الأحيان للحالات التي يصعب فيها التوصل إلى اتفاق ملزم، كما أنه يسهم في توجيه ممارسات الدول بشأن أمر ما لنهج سلوك معين يصبح مع مرور الوقت نوعاً من القواعد العامة التي تسهم في نشوء عرف معين.
وعلى الرغم من هذه الفوائد، فإن استخدام هذا النوع من الوثائق لا يخلو من السلبيات. فمن مضار الاعتماد على هذا النوع من الوثائق أنها غالباً ما تتضمن أحكاماً عامة وتتطلب في كثير من الأحيان ملاحق تفصيلية حتى يمكن تطبيقها. أضف إلى ذلك أن كون هذه الوثائق غير ملزمة قانوناً فإن تنفيذها أمر خاضع لتقدير الدول الأطراف ومدى رغبتها في الوفاء بأحكامها، وبالتالي لا يمكن الاستناد عليها أمام المحاكم الدولية في حالة وقوع أي خلاف بين الدول الأطراف فيها.
وأخيراً هناك صعوبة في الحصول عليها لأن هذا النوع من الوثائق لا يعتبر اتفاقيات وفقاً لاتفاقية فيينا لقانون المعاهدات لسنة 1969، وبالتالي لا يتم تسجيل الوثائق لدى قسم المعاهدات في هيئة الأمم المتحدة وفقاً لنص المادة 102 من ميثاق الأمم المتحدة.
وفي الختام تزخر ممارسات الدول بأمثلة عديدة ومخارج قانونية كثيرة بشأن توثيق تفاهم أو اتفاق معين ووضعه في اتفاقية ملزمة أو مذكرة تفاهم أو مدونة قواعد سلوك أو إعلان معين أو محضر اجتماع. فالاختيار بين هذه الخيارات العديدة يخضع لاعتبارات كثيرة وتقييم لكل حالة بحالة اعتماداً على الموضوع محل النقاش والمحتوى الذي فيه.
مستشار في القانون الدولي العام
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .
«تلجأ الدول إلى الوثائق غير الملزمة عندما يكون الموضوع المطروح لايزال غير واضح أو لا يمكن تحديده بدقة».