الآثار النبوية وقيمتها التاريخية
التاريخ الإسلامي بُغية كل طالب معرفة ينشد الحقيقة، ويطلب أن يعيش أجواء انبثاق نور الهداية الإلهية للبشرية، ولا يُدرِك ذلك إلا بالوقوف على المعالم الأثرية التي تنزَّل فيها القرآن الكريم، ووطأتها أقدام سيد البشر، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، لامتزاج التاريخ بالمواقع كامتزاج الماء بالشجر، والروح بالجسد، فلا يمكن لأحد أن يُدرك تمام الإدراك معاناة النبي، صلى الله عليه وسلم، في تلقي الوحي ومعالجة قومه ليهتدوا به، ما لم يشاهد هذه الآثار، كبيته العظيم الذي ولد فيه وعاش فيه، وشِعبه الذي شب فيه وأوى إليه، وطُرقه التي كان يختلف فيها فيعرف أثره فيها، وتسلم عليه أحجارها، وكغار حراء الذي انبثق نور الوحي فيه، وغار ثور الذي احتمى فيه من أعدائه، ومَوَاطن غزواته التي وطأته أقدامه الشريفة، ومشاهد الوقعات التي خاضها النبي، صلى الله عليه وسلم، مع قومه الذين يريد أن يخرجهم من الظلمات إلى النور ومن الضلال إلى الهدى، كبدر وحنين وأحد والخندق والحديبية، وغيرها من المشاهد التي وطئ ثراها بأقدامه الشريفة، وشارك فيها ملائكة الله بالخيل المسومة، وتنزلت آيات الذكر الحكيم في رباها، وفي ربوع مكة والمدينة والحجاز عموماً، وأطراف الجزيرة العربية، فكل كانت متصلة بأنوار السماء، وجلال النبوة، وأنوار الصحابة، وقد كان الصحابة، رضي الله عنهم، يتعاهدونها ويتذكرون مآثر نبيهم، صلى الله عليه وسلم، وأمجادهم فيها.
- الشعوب في العالم كله، مع اختلاف ثقافاتهم وانتماءاتهم، يحرصون جِد الحرص على الحفاظ على موروثاتهم التاريخية والثقافية |
هذه المشاهد تذكرها آلاف المراجع الإسلامية والأجنبية، وتخطط أماكنها ومسافاتها وأبعادها وما وقع فيها، ويبقى الإنسان متشوقاً لرؤيتها، وكانت محل عناية المؤرخين السابقين، كمؤرخي مكة القدماء كالأزرقي، والمحب الطبري والفاكهي والفاسي وابن فهد، وابن ظهيرة، وابن فرحون، واليافعي والسمهودي، وغيرهم كثير قديماً وحديثاً، وإذا كانت مثل هذه التخطيطات آتية من قبل من لا يعرف المواقع ولم يشاهدها فلعله لا يدرك أبعادها ولا مسافاتها، أو كان ممن عرفها بدقة، لكن حدثت تطورات حضرية أثرت في أبعادها، ما قد يوقع القارئ في خطأ تصورها، والتاريخ لا يقبل مثل ذلك الخطأ، لما يترتب عليه من بعد عن واقع المعلومة، الذي يريد التاريخ أن يتحدث عنه بواقعية، فإذا لم تحيَ بما يناسب العصر من تقنيات وتطور في علم المساحة، وإبراز تلك المعالم بمظاهر الوجود حتى يشهدها الناس بأم أعينهم، فإنها ستندرس كما درست معالم كثيرة.
ومعلوم أن الشعوب في العالم كله مع اختلاف ثقافاتهم وانتماءاتهم يحرصون جِد الحرص على الحفاظ على موروثاتهم التاريخية والثقافية، ويعدونها جزءاً من حياتهم وانتماءاتهم الوطنية والدينية، وكما يقول الشاعر:
هذه آثارنا تدل علينا * فانظروا بعدنا إلى الآثار
ولعمرو الحق إنه ليس هناك من الآثار العالمية ما يستحق الحفاظ والإشادة والإحياء كما تستحقها معالم السيرة النبوية في جميع مراحلها ومشاهدها، منذ الملة الحنيفية الأولى ملة إبراهيم، عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، إلى بزوغ نور النبوة المحمدية، وما تبع ذلك في صدر الإسلام إلى منتهى القرون الثلاثة المفضلة، فإن هذه المشاهد هي التي أوجدت أمة ملأت الأرض نوراً وفضلاً، حيث شعّ نور الإسلام في ربوع الأرض بفضل تلك المشاهد التي شهدها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه من بعده وتابعوهم الأخيار.
وإنه ليجدر أن يشاد بتوجه حكومة خادم الحرمين الشريفين بالحفاظ على المآثر الإسلامية، حتى تحيي ذكراها في عيون وصدور المسلمين الذين يتوقون إلى رؤيتها وتصور أحداثها، والوقوف على أطلالها، فيتذكرون أمجادهم الذين أوصلوا الخير إليهم فأصبحوا عالة على فضلهم، ويستنُّون بسيرتهم وتضحياتهم، وهي بهذا التوجه الكريم تسر وتسعد كل مسلم، بل كل محب للتاريخ، وكل معتن بثقافة الأمم والشعوب، فتنال إكبارهم و إعزازهم وثناءهم العاطر.
وفق الله خادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين لما فيه خير ونفع أمته الإسلامية بتاريخها العظيم، الذي تباهي به الأمم.
«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.