مساحة حرة
الاستدامة العقارية
ما علاقة الصحة بالاستدامة العقارية؟ هذا ما نحاول أن نجيب عنه في هذه السطور. بداية لابد أن نعترف أن كوكب الأرض كان ينتظر هذه الاستراحة الإجبارية من سكانه، فهو بلا منازع المستفيد الوحيد من «كورونا»، بعد أن عانى منذ عقود تعدى الإنسان عليه عبر تلويثه وهدر موارده. حيث أشار علماء بيولوجيون إلى أن نصف الأمراض تنتقل للإنسان من الحيوانات وسببها في الأساس هو الضرر الذي نلحقه نحن البشر بالبيئة. فهناك علاقة ملحوظة بين الأمراض والتغيّر المناخي، حيث ظهرت أمراض لم تكن موجودة من قبل.
فعلى سبيل المثال، تسهم الصين سنوياً بـ30% من غازات أكسيد الكربون عالمياً، فلا عجب أن «كورونا» بدأ هناك وانتشر في هذه البقعة الأكثر تلوثاً في العالم. وأثبتت دراسات أخرى بأنه يموت أكثر من 4.6 ملايين شخص سنوياً من تلوث الهواء عالمياً.
ليست الأمراض فحسب ضريبة الضرر الذي ألحقه البشر بالبيئة، بل يهدد التغيّر المناخي مدناً بأكملها، فجاكرتا على سبيل المثال، لن تكن العاصمة لدولة إندونيسيا بعد سنوات عدة، حيث تحاول هذه الدولة بناء عاصمة جديدة لها بسبب غرق المدن الساحلية التي تعانيه هذه الدولة الساحلية، التي تصنّف أنها الأسرع في معدلات غرق المدن الساحلية عالمياً، حيث تغوص المدينة في البحر بمعدل 10 سم سنوياً، كما أن البندقية ستختفي بعد أقل من 50 عاماً، وهذه أمثلة بسيطة من واقع أليم ينتظر نصف كبريات المدن العالمية الساحلية.
ولكن عندما توقفت المحركات مؤقتاً للتعامل مع هذه الجائحة تنفست الأرض الصعداء، بعد أن جلس الناس في بيوتهم كإجراءات احترازية للتعامل مع هذه الجائحة. ففي الصين التي بدأ فيها «كورونا»، وخلال شهر فبراير، زادت جودة الهواء بأكثر من 21%، وانخفضت غازات أكسيد الكربون بنسبة 25%، وتم إنقاذ ما يقرب من 500 حالة وفاة كانت تحدث شهرياً بسبب هذا التلوث للهواء، بحسب التقارير العالمية في هذا الجانب.
فكل الأدلة تشير إلى أنه حان وقت التغيير وخلق واقع جديد في تصرفات بني البشر، فالعمل من البيت تدعمه التكنولوجيا الحديثة ثبتت كفاءته وإنتاجيته، فلماذا لا يعتمد مستقبلاً للتقليل من الازدحام واستخدام الوسائل الملوثة للهواء.. عدا عن فوائده الاجتماعية؟ ألم يحن الوقت بعد لتطوير مدن صحية مستدامة عقارياً وبيئياً تكون هدفها صحة الإنسان؟ ألم يحن الوقت بعد للاستثمار في تجمعات سكانية متطورة تضم مناطق خضراء واسعة وأماكن للمشي والرياضة وركوب الدرّاجات وتقليل الاعتماد على الوسائل الملوثة للبيئة؟
ومن المؤكد أن «كورونا» سيغيّر قواعد اللعبة كلياً وكوكب الأرض بعد «كورونا» سيكون مختلفاً تماماً عما قبله. وعلى الدول أن تقوي استثماراتها في الصحة العامة والبحوث المتقدمة. وعليها أيضاً تغيير منظومة التطوير العقاري لديها لجعل المدن أكثر استدامة وصحية على البشر، كما أن البشر أنفسهم عليهم أن يبدأوا حياة صحية، يكون فيها الترشيد والاقتصاد في استهلاك موارد البيئة واستخدام الوسائل النظيفة.
وأخيراً، لا خيار لنا الآن سوى مناقشة كيفية تطبيق الاستدامة في ما نبنيه من مدن جديدة، عبر توفير حياة صحية جديدة لملايين البشر بعيداً عن التلوث، من خلال تسخير دور التكنولوجيا والابتكار والشراكات بين القطاعات المختلفة. وهذا لا يتأتى إلا بالربط بين الثقافة (الوعي) والمكان والتكنولوجيا في بناء هذه المدن المستدامة، والحفاظ على مساحات خضراء واسعة في ظل الازدحام والعمران المتنامي.
ومن الأمثلة الجديرة بالذكر هنا نموذج دبي الذي يشكل نموذجاً فريداً للمدينة السعيدة الذكية والمستدامة، إذ تحتضن مساحات خضراء واسعة، وتعتمد استراتيجية للتحوّل الكلي نحو الطاقة النظيفة بشكل أساسي، تشهد عليه زيادة معدلات استخدام هذه الطاقة في مبانيها.
نائب رئيس الاتحاد الدولي للعقاريين العرب