العفو عند المقدرة
من الأخلاق العظيمة التي تُكبِر صاحبها «العفو عند المقدرة»، أي العفو عن المسيء عند القدرة على معاقبته على إساءته، وإن كانت المعاقبة جوهر العدل، فإن العفو قمة الفضل، وهذا الخلق الكريم هو خلق الإسلام الذي ندب إليه القرآن الكريم في غير ما آية، كقوله سبحانه: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} وقوله سبحانه: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ}.
والصفح الجميل هو العفو والإعراض الذي لا عتاب معه، ومازال القرآن الكريم يحث على الإعراض عن الجاهلين، والعفو عن المسيئين حتى من تلطخوا بدم القتل والعدوان، فإنه مع تشريعه القصاص، إلا أنه حبَّذ العفو عند المقدرة كما قال سبحانه:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ}، كل ذلك ليتحلى المؤمن بالعفو الكريم، فمن تحلَّ بالعفو عند المقدرة يكن قد تحلى بخلق الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، وعمل بهدي القرآن الكريم.
وقد بيّن النبي، عليه الصلاة والسلام، فضله بقوله: «وما زاد الله عبداً بعفو، إلا عزاً»، ومع ذلك فقلَّما تجد له واقعاً في دنيانا اليوم، وقد كان بالأمس خُلُقاً سائداً لدى كُمَّل الرجال، وعلى رأسهم نبينا وسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، الذي كان على خلق عظيم، وبعث به ليعلمه أمته، فكان إذا قدر على عدوه وظفر به، أوسعه صفحاً وعفواً، فقد ظفر بمشركي مكة أيما ظفر، فلم يزد على أن قال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» وظفر بالأعرابي الذي شام السيف فوق رأسه، فلم يرعه بعقوبة، وظفر بصناديد قريش يوم بدر، فلم يُعمل فيهم السيف كما كان قد أشار به بعض أصحابه، وإنما عفا عنهم إلى فداء أو تعليم صبيان الأنصار القراءة والكتابة، وقال يوماً لسلمة بن الأكوع وقد ظفر بعدوه: «ملكت فاسجِح»، وقد تمثل هذا المعنى سيدنا علي، رضي الله عنه، يوم أن كان له الظفر في وقعة الجمل، فقالت له أمنا السيدة عائشة رضي الله عنها: «ملكت فاسجح» أي ظفرت فأحسن، فجهزها عند ذلك بأحسن الجهاز، وبعث معها أربعين امرأة حتى عادت إلى حجرتها بالمدينة المنورة، رضي الله عنهم جميعاً.
ذلك أن المقدرة تُذهب الحفيظة، أي الغضب، كما قيل إن بعض عظماء قريش قال لعدو قد ظفر به: لولا أن المقدرة تُذهب الحفيظة لانتقمت منك، ثم تركه، والعفو في مثل هذا الحال هو الذي يكسب الود ويجعل المقدور عليه رهين المِنَّة، والعافي ملك الإحسان، وأي فضل يتحلى به المرء أكثر من هذا، وهو الفضل الذي لم يفوّته الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف، عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فإنه ما أن ظفر بإخوانه الذين ائتمروا على قتله ثم ألقوه في غيابة الجُب ليلقى فيه حَتفه لولا أن الله حفظه ونجاه، فلما مكنه الله من إخوته وعرفهم ما كان منهم، لم يزد على أن قال لهم: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}.
هذا هو خلق النبوة الذي ينبغي للناس التحلي به حتى يكونوا كاملي الأخلاق، وبه ينالون الرفعة في الدنيا بإعزاز الناس لهم وتوقيرهم، وفي الآخرة الأجر العظيم عند الله تعالى؛ لأن ذلك من الإحسان الذي يحبه الله تعالى ويرضاه، بينما الانتقام هو تشفِّي آنيّ للنفس، لا يزيدها عزاً، ولا تنال به أجراً.
إن العفو عند المقدرة ليس قاصراً على العفو عن العدو الذي يُتمكن منه، بل كذلك عن زلات المسيئين من أقارب أو أباعد، في البيت أو العمل، في المجتمع أو في غيره، فلو أن الناس تمثلوا هذا الفضل فعفوا عمن أساء إليهم، أو قصر في حقهم، أو فوت عليهم مصلحة، وكان بمقدور المرء أن يقاضيه ويأخذ حقه منه، لو أنهم فعلوا ذلك لعاشوا في صفاء ومحبة، ووجدوا للحياة طعماً، وللعمر معنى، وعاش المجتمع في سعادة غامرة، إلا أن الشيطان يحرص جد الحرص على التحريش بينهم ليزداد الشقاق بحكم التشفي وأخذ الحق للنفس، ولعل التشفي لا يقف عند حد، بل يقابل بمثله حتى تعم الفوضى، وينفلت زمام الاستقرار والطمأنينة، ولو علم المتشفِّي أن ما عند الله خير وأبقى لأسجح واستراح وريح، ولكنّ كثيراً من الناس لا يعلمون.
«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .
إن العفو عند المقدرة ليس قاصراً على العفو عن العدو الذي يُتمكن منه، بل كذلك عن زلات المسيئين من أقارب أو أباعد، في البيت أو العمل، في المجتمع.