5 دقائق
سلامة القلب تنفع في الدنيا والآخرة
ما أكثر ما نقول ونسمع كلمة «سلامة القلب»! وقد يكنَّى بالصدر عن القلب، فيقال: «سلامة الصدر»، ونعني بذلك أن يكون القلب سليماً من الغِل والحسد والغش والخداع، مليئاً بالمحبة للناس والإحسان إليهم، حتى يعيش المرء محِباً مَحبوباً، وهذا معنى صحيح، مطلوب من كل إنسان، غير أن سلامة القلب تعني معانيَ عظيمةً أخرى، تليق بالجزاء العظيم المترتب على سلامة القلب، وهو ما أخبر به الحق سبحانه بقوله: ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾، أي أن سلامة القلب هي النافعة للمرء عند لقائه ربَّه سبحانه، يوم العرض عليه، ويوم أن يضيع نفع المال والولد وتزل الأقدام، ولا يبقى مع المرء من زاد إلا القلب السليم، فيكون مخلِّصاً له، ومنقذاً من شقاء الآخرة.
- اختلف أهل التأويل في تعريف القلب السليم النافع يوم اللقاء. |
وقد اختلف أهل التأويل في تعريف القلب السليم النافع يوم اللقاء، فقال ابن سيرين رحمه الله: هو أن يعلم أن الله حقّ، وأن الساعة قائمة، وأن الله يبعث من في القبور.
ويريد بذلك الإيمان الحق بالله جل في علاه، إيماناً لا يخالطه شك، فيؤمن به توحيداً، ويؤمن بمغيبات ما أخبر به من اليوم الآخر وما فيه، إيماناً لا ريب فيه.
ومعلوم أن مثل هذا الإيمان هو الذي يثمر العمل الصالح الذي أمر به الحق سبحانه، واجتناب ما نهى عنه، اجتناب امتثال وطاعة، خشية لله ورغبة فيما عند الله تعالى، لأن هذه الأمور من لوازم الإيمان وسلامة القلب.
وقال بعضهم: القلب السليم هو الذي سلِم من الشرك والغِل والحقد والحسد والشُّح والكِبر وحب الدنيا والرياسة... فسلم من كل آفة تُبعده عن الله، وسلم من كل شبهة تعارض خبره، ومن كل شهوة تعارض أمره، وسلم من كل إرادة تزاحم مراده سبحانه في عبده، وسلم من كل قاطع يقطعه عن الله، فهذا القلب السليم في جنة معجلة في الدنيا، وفي جنة في البرزخ، وفي جنة يوم المعاد.
واختصر بعضهم هذه المعاني بقوله: القلب السليم هو الذي سَلَّم وأَسْلَم وسَالَم واسْتَسْلَم.
وما من أحد إلا وهو يود أن يكون حاملاً هذا القلب النافع في الدنيا بالسلامة للناس ومن الناس، وفي الآخرة يوم العرض على رب الناس، وقد يدعيه كل من أحبه، غير أن ذلك لا يثبت لأحد حتى تُرى فيه علاماته، وهي ما بيّنها بعض المفسرين بقوله: القلب السليم له ثلاث علامات، أولها: أن لا يؤذي أحداً، والثاني: أن لا يتأذى من أحد، والثالث: إذا اصطنع معروفاً إلى أحد لم يتوقع منه المكافأة، فإذا هو لم يؤذ أحداً، فقد جاء بالورع، وإذا لم يتأذ من أحد، فقد جاء بالوفاء، وإذا لم يتوقع المكافأة بالاصطناع، فقد جاء بالإخلاص، وهذا ما يكون به نفعه عند لقاء ربه سبحانه وتعالى.
وذلك ما حث عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمته بترك التشاح والمخاصمة والغل والحسد على أحد من عباد الله تعالى، حتى تعرض الأعمال على الله تعالى فيقبلها، وإلا ردت على من لم يكن قلبه سليماً، أو تؤخر حتى يصطلحا، وكم علمنا عليه الصلاة والسلام أن ندعو الله تعالى في سجودنا بين يديه سبحانه بتثبيت قلوبنا على الطاعة والاستقامة، كل ذلك حتى نسعى جاهدين لجعل قلوبنا سليمة، فتكون نافعة لنا يوم اللقاء.
وإذا علم المرء عظيم الجزاء الذي أعده الرحمن الرحيم لصاحب القلب السليم فلم يسعَ لسلامة قلبه وتصفيته من شكه وغِله، وتحليته بالإخلاص لربه وصدق توحيده؛ فإنه يكون قد أضر بنفسه، إذ لم يسع لنفعها، فإن الحق سبحانه قد قصر نفع العبد عند لقائه بسلامة قلبه فقط، فيكون الإنسان هو المسؤول عن مصيره في ذلك اليوم المشهود؛ وقد أعذره الحق سبحانه، فإذا لم يفعل فلا يلومنَّ إلا نفسه، ولا يهلك على الله إلا هالك.
ومن لم يُسلم قلبُه لله تعالى، ولم يَسلم المسلمون من لسانه ويده وأدواء قلبه؛ فإنه يقدم على ربه بقلب سقيم، وهناك يدرك جنايته على نفسه وظلمه لها، ولكن لات حين مناص.
فنسأل الله القلب السليم في الدنيا، والنعيم المقيم في العقبى، فهو الذي يقلب القلوب ويثبتها أو يصرفها.
«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.